بدأ التواطؤ الأمريكي مع ميليشيا الحشد الشعبي منذ حزيران 2014، وقد أوضحت في مقالات كثيرة طبيعة وأسباب هذا التواطؤ، وقد نقلت شخصيا عن برت ماكغورك (بعد تعيينه موفدا رئاسيا جديدا لتنسيق حملة قوات التحالف الدولي ضد تنظيم داعش، خلفا للجنرال جون آلن، في تشرين الأول 2015) في اجتماع عقد في أبو ظبي بحضور الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة ميلادينوف، وممثل عن الحكومة العراقية، في إطار ما عرف وقتها بـ»المصالحة الوطنية» بعد أن طالبنا بضرورة تشكيل «الحرس الوطني» بالصيغة نفسها التي طرحها الأمريكيون، وهي صيغة قوات محلية تابعة للمحافظات التي سيطر عليها داعش، تقاتل لاستعادة مناطقها، ورفضنا في الاجتماع أي مشاركة سنية في القتال ضد داعش، دون اتفاق سياسي مسبق يتعلق بضمان الشراكة الحقيقية في السلطة، ومنع احتكار الفاعلين السياسيين الشيعة للحكم في العراق، وكانت الصدمة يومها عندما هددنا ماكغورك بهذه الميليشيات بشكل صريح قائلا: « إذا لم تشاركوا فإنها ستدخل إلى مدنكم»! وكان هذا التهديد نتيجة للتعاون الصريح بين القوات الأمريكية التي عادت إلى العراق في إطار التحالف الدولي لمحاربة داعش (التحالف الذي أنشأته وقادته بنفسها في أيلول 2014) وهذه الميليشيات على الأرض.
ورغم معارضة الولايات المتحدة يومها لأي دور إيراني في هذا التحالف، لكنها في الواقع تعاملت مع وكلاء إيران في العراق من خلال تسليحهم بالأسلحة الأمريكية، وتوفير الغطاء الجوي لهم، وغض الطرف عن المستشارين الإيرانيين العاملين معهم، بل إنها تغافلت تماما عن الانتهاكات الكبيرة التي قامت بها هذه الفصائل، مع أن لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، في مرحلة مبكرة، وصفت هذه الانتهاكات بأنها جرائم ضد الإنسانية ترقى إلى أن تكون جرائم حرب!
يومها نشرت مقالا بعنوان: «القوات الإيرانية والأمريكية تشتركان في قاعدة واحدة في العراق»، نقلت فيه عن اثنين من كبار المسؤولين في الإدارة الأمريكية أن الجنود الأمريكيين والميليشيات الشيعية، تحديدا كتائب حزب الله، يقيمان جنبا إلى جنب في قاعدة «تقدم» العسكرية في الأنبار (كانت وازرة الخارجية الأمريكية قد أعلنت في تموز 2009 كتائب حزب الله على قائمتها المتعلقة بالإرهاب!). كما نُقل عن مسؤول كبير آخر، ان قادة بعض الميليشيات المتشددة كانوا يجلسون في إحاطة أمريكية بشأن العمليات العسكرية!
لكن العلاقات الأمريكية مع هذه الميليشيات تحولت نتيجة لتوتر العلاقات الأمريكية الإيرانية بعد إعلان إدارة الرئيس ترامب 2018 انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، وحُزم العقوبات المتتالية ضدها بالدرجة الأساس، وإدراج بعض الميليشيات العراقية ضمن قائمة المنظمات الإرهابية، لنصل إلى ما أسميته يومها «رسائل الكاتيوشا» التي أرسلت تباعا إلى السفارة الأمريكية بداية من أيار 2019!
الولايات المتحدة هي الوحيدة القادرة فعليا على التعامل مع هذه الميليشيات، إذا ما قررت إنهاء لعبتها المزدوجة التي لعبتها مع إيران
ومع كل هذا التصعيد استمرت الولايات المتحدة في ممارسة لعبتها المزدوجة في العراق، ولم تنهها رغم إدارج أسماء بعض الميليشيات العاملة في الحشد الشعبي ضمن قوائم الإرهاب التي تصدرها وزارة الخارجية الأمريكية، ورغم فرض عقوبات على رئيس هيئة الحشد الشعبي (وضعت وزارة الخزانة الأمريكية اسمه في كانون الثاني 2021 على القائمة السوداء واتهمته بأنه جزء من خلية أزمة تشكلت في أواخر 2019 لإخماد الاحتجاجات بدعم من فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني المدرج أيضا على القائمة السوداء الأمريكية)، وعلى رئيس أركان الحشد الشعبي (وضع على قائمة عقوبات وزراة الخزانة الأمريكية في كانون الثاني 2021 وعلى قائمة الإرهاب أيضا بسبب تورطه بأعمال إرهابية بموجب الأمر التنفيذي رقم 13224)، ومع ذلك ظلت الولايات المتحدة تتعامل مع الحشد الشعبي وميليشياته بوصفهما أمرا واقعا.
وفي سياق المتغيرات التي حصلت في الشرق الأوسط في السنة الأخيرة، تحديدا فيما يتعلق بالعلاقة مع وكلاء إيران في المنطقة، تصاعدت نبرة الخطاب الأمريكية ضد الميليشيات العراقية، ووصل الأمر إلى الاعتراض على تشريع قانون جديد للحشد الشعبي، والاعتراض على تمويله من المال العام.
ففي شباط 2015 أشارت المتحدثة الرسمية باسم وزارة الخارجية الأمريكية إلى مكالمة هاتفية بين وزير الخارجية ماركو روبيو ورئيس مجلس الوزراء العراقي تضمنت عبارة «سبل الحد من النفوذ الإيراني الخبيث» في العراق على لسان روبيو، ولكنها لم تتضمن مطلقا إشارة إلى الحشد الشعبي أو ميليشياته!
لكن في تموز كان الموقف الأمريكي واضحا بشأن مشروع قانون الحشد؛ فقد قالت المتحدثة باسم وزاة الخارجية الأمريكية إن «مشروع قانون الحشد الشعبي يتعارض بشدة مع الشراكة الأمريكية العراقية، وأنه يناقض مبدأ تعزيز المؤسسات الأمنية العراقية والسيادة الحقيقية للعراق. والعبارة الأكثر تأكيدا لهذا الموقف الصارم في حديثها كانت أن الولايات المتحدة «ستتخذ الإجراءات المناسبة ضد المؤسسات المالية التي تمول الحشد الشعبي»! وهذا تهديد خطير يربك وزارة المالية العراقية بشكل مباشر، وربما البنك المركزي أيضا، بوصفهما الجهات التي تمول هذه الميليشيات وفقا لقانون الموازنة العامة، بل قد يمتد هذا التهديد نفسه إلى الحكومة ومجلس النواب العراقي بوصفهما الجهتين اللتين تقرران تمويل الحشد الشعبي عبر قانون الموازنة العامة..
وقبل أيام نشرت السفارة الأمريكية في بغداد على منصة X تغريدة قالت فيها إن القائم بالأعمال عبر في لقائه بالنائب الأول لرئيس مجلس النواب العراقي، عن قلق الولايات المتحدة من تشريع القانون الجديد للحشد الشعبي، واستشهد بما قاله وزير الخارجية الأمريكي من أن هذا القانون «سيؤسس لنفوذ إيراني ويقوي الجماعات الإرهابية المسلحة، مما يهدد سيادة العراق»!
إن مراجعة سريعة لمشروع قانون «هيئة الحشد الشعبي» الذي صادق عليه مجلس الوزراء بجلسته بتاريخ 25 شباط 2025، ومقارنته بمشروع قانون «الخدمة والتقاعد لمجاهدي الحشد الشعبي» الذي قدم عام 2019، تكشف عن محاولات واضحة لتهذيب القانون كي لا تثير حفيظة الأمريكيين، وواضح أن واضعي هذا القانون غفلوا عن طبيعة المتغيرات الجديدة التي تحكم المنطقة اليوم!
ومع هذا لم يخل القانون الجديد المقترح من مفردات ومواد مستفزة، ليس للأمريكيين وحدهم، بل للعراقيين أنفسهم. مثال ذلك مفردة «المجاهدين» في القانون الجديد التي جاءت لتوصيف منتسبي الحشد الشعبي!
كما إن القانون لم يحل مسألة التناقض بين كون الحشد الشعبي «جزءا من القوات المسلحة» و»جهازا عسكريا»، وبين منحه صلاحية «المساهمة في تأمين وحماية الأمن الوطني» (وهو اختصاص أمني يمارسه الحشد الشعبي منذ سنوات دون أي غطاء قانوني) أو التناقض بين كون الحشد الشعبي مؤسسة عسكرية وفي الوقت نفسه يضم شركة المهندس العامة للمقاولات الإنشائية والهندسية والميكانيكية والأعمال الزراعية والصناعية!
إن الفاعلين السياسيين الشيعة يؤمنون إيمانا مطلقا أن ميليشيا الحشد الشعبي هي الضامن الوحيد لتحقيق الحاكمية الشيعية في العراق، والضامن الوحيد أيضا لبقائهم هم أنفسهم في السلطة، وأن إيران تحرص على بقائها لأن الغالبية العظمى من هذه الميليشيات هي ولائية تؤمن بأن قرار الخامنئي هو قرار الإمام الغائب الواجب الطاعة نفسه، وهي ذراعها ووكيلها في العراق!
والواقع أن الولايات المتحدة هي الوحيدة القادرة فعليا على التعامل مع هذه الميليشيات، إذا ما قررت إنهاء لعبتها المزدوجة التي لعبتها مع إيران طوال السنوات الماضية، وقررت إضعاف النفوذ الإيراني في العراق فعلا.
كاتب عراقي
- القدس العربي