في تجارب دول العالم، هناك «حكومات مؤقّتة» و»حكومات انتقالية»، وفي سوريا كان الأمر خلال الأشهر الثمانية الماضية شيئاً من الحكومتين معاً. و»الانتقالية» بينهما هي الأهمّ والمقصودة بهذا المقال، لكن البدء بالمؤقّتة بينهما، ربّما يفتح المجال لإنارة أفضل. فقد انتصر الثوّار الروس على حكومة القيصر تحت ظلال الحرب العالمية الأولى القاتمة، والخسائر الفادحة التي كانت تلاحق الجيش الروسي، وتمّ تشكيل حكومة مؤقّتة في فبراير 2017، ضمّت القوى المعارضة الرئيسية – ما عدا البلاشفة- برئاسة الأرستقراطي لفوف أولاً، ثمّ برئاسة كيرنسكي الليبرالي ثانياً.
أمّا في إيران الثورة الإسلامية، فقد خَلَف مهدي بازركان في رئاسة الحكومة المؤقّتة – الليبرالي أيضاً، ولكن المؤيّد للثورة، وجاء بعد حكومة بختيار الليبرالي والمعتدل المؤيّد للشاه. حاول بازركان نفسه التوسّط بين بختيار والخميني، وفشل في ذلك.
في دمشق بدورها، ومع كلّ الفروق الواضحة، ظنّ بعض السوريين والمراقبين الخارجيين، أن هناك ميلاً- ظهرت ملامحه- للاستعانة بآخر رئيس للوزراء لدى الديكتاتور، من أجل ضمان السلاسة في الانتقال، وتحقيق أكبر نجاح ممكن في العملية الانتقالية، إلّا أن النجاح الكاسح المفاجئ، دفع هيئة تحرير الشام- نواة المنتصرين الصلبة- إلى القفز خطوة إلى الأمام، ومحاولة الدخول في مسار تحقيق الاستقرار الأوّليّ والضروريّ، من خلال نقل «حكومة إدلب» إلى دمشق، من دون تعديلات ملحوظة، حتى تضمن الانسجام في الأداء كما قيل، لا حصر دائرة السلطة في حدود الولاء الصارمة، كما رأى آخرون. قيل أيضاً إن «حكومة انتقالية» ستتشكّل بعد ثلاثة أشهر من «المؤقّتة»، الأمر الذي تحقّق بالفعل من حيث العنوان على الأقل. وكان تمرير الانفراد في المرحلة الأولى- المؤقّتة- سهلاً تحت غطاء الفرح والإثارة البالغة، مع زوال نظام طغيان دام لعشرات السنين، وتفهّم الحاجة إلى إعادة ضبط البلاد على حركة السلطة الجديدة. في حين استقبلت «الانتقالية» بداية التدهور الذي حاق بأفراح المرحلة الأولى، ابتداءً من منطقة الساحل، عندما سادت العقلية والأيديولوجيا الغافيتين تحت نوايا المنتصرين الجدد المعلنة، وخططهم التي كانت تحتاج إلى «طبخ» أطول مدى وأعمق ممّا حدث.
لا تزال آثار ما جرى في منطقة الساحل مع العلويين، وفي السويداء مع الدروز، أمراً يقلق السوريين جميعاً، ويخشون بقاءها تهديداً مسلطاً فوق رؤوسهم أو تفجّرها من جديد
هذه مجرّد مقدّمة للحديث في مسألة الحكومة الانتقالية: ماذا يُفهم من مهمّتها، وما هي بالفعل؟
نصّت الفقرة الأولى من نقاط كوفي أنان الستّ – أوّل مبادرة من أجل سوريا في التوقيت (مارس 2012 مباشرة بعد مجزرة كرم الزيتون، فاتحة المجازر الطائفية) وبالمضمون الصحيح – على «الالتزام بالعمل من أجل عملية سياسية كاملة يقودها السوريون». كما نصّ بيان جنيف الشهير الذي احتُفي به آنذاك على أن جوهره «إقامة هيئة حكم انتقالية»…» تمارس السلطات كافة، ويمكن أن تضمّ أعضاء من الحكومة الحالية والمعارضة والمجموعات الأخرى»، ثمّ «يوضع دستور جديد يُعرض على الاستفتاء العام، وتقام بعده انتخابات حرة ونزيهة وتعدّدية». من الواضح أن السلطات الجديدة أرادت الظهور بمظهرٍ يدعو للثقة، بأن تشكيل الحكومة الانتقالية الحالية، جاء لتلبية المتطلّبات المذكورة، كما هي في تجارب عمليات التغيير السياسي، التي شهدها العالم والأمم المتحدة، خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية: «عملية سياسية» و»انتقال سياسي» و»حكومة انتقالية»، إلى آخر ذلك النسق من المفاهيم ذات الجوهر الواحد: تغيير النظام وتحديثه.
وأساساً كان هنالك مسار سوري طويل لتلك العمليّة السياسية، وآخر فصل فيه تمَّ في اجتماعات فيينا أواخر 2015 عندما كان «الخارج» ما زال قادراً على الاتّفاق وإنتاج قرار مجلس الأمن رقم 2254، الأكثر تواضعاً من بيان جنيف المذكور. وقد استمرّ ذلك القرار باستخدام المفاهيم» الانتقالية» ذاتها، التي تعني من دون لبس «التغيير» من نظام حكم استبدادي إلى آخر ديمقراطي أكثر حداثة وقابلية للقبول في العالم المعاصر.
الآن هناك طروحات متعارضة ولا تجد الوقت الكافي للتظهير والجدال حولها وتقليص الفجوة بينها: أولّها تقول به نخب سورية متعدّدة مع دعم غير مباشر من البيئة الإقليمية، كما عبّرت عنها الجامعة العربية و»بيان العقبة»؛ إلى تلك البيئة الدولية التي تمسّكت بفرضية، أن القرار 2254 ما زال بجوهره على الطاولة للتنفيذ، خصوصاً من حيث شموليّة جميع خطوات الانتقال السياسي على الأقل.
وثانيها تقول به السلطة، أو من يقول إنه يتحدّث باسمها هنا وهناك، بأن ذلك القرار قد انتهى مع سقوط أحد الطرفين المعنيين بالقرار الأممي وانتصار الآخر، بكلّ ما يعنيه ذلك من تملّص بكل الضوابط السياسية التي يحتوي عليها، هو وقرارات المجموعة العربية أيضاً، لذلك ترى أن «من يحرّر يقرّر»، وكما يرى. وذلك يجعل من تسمية» الحكومة الانتقالية» شكلاً من دون مضمون.
هنالك خارج سوريا من لا ينسى يومياً الإصرار على «الشمول»، وهو نقيض الإقصاء، ومن ثمّ الانفراد الذي يمكن (ويُحتمل ولا يٌفتَرض به) أن يقود البلاد إلى حيث قادها الأسد سابقاً. لكنّ هنالك أيضاً من يقولها رفعاً للعتب، أو للحفاظ على المظاهر، أو لتحصيل حصة أكبر من سوريا الجديدة لنفسه. وهنالك طرف آخر أكثر تقديراً للمخاطر وأهمّية دَرئها؛ خصوصاً من جانب الأمم المتحدّة وأوروبا.
وقد حذّر كبير وسطاء الأمم المتحدة مجلس الأمن مراراً من أن استمرار الصراع قد يكون له تأثير بالغ على الحرب ضد داعش والسلم والأمن الدوليين. كما نقل تعهدات السلطات السورية الجديدة بتحقيق انتقال سياسي شامل بقيادة سورية، بما يتماشى مع المبادئ الأساسية لقرار مجلس الأمن رقم 2245 (2015)، وقال: «لقد التزمت قيادة السلطات السورية الجديدة المؤقتة أكثر من مرة، علنًا، بأن سوريا الجديدة ستكون لجميع السوريين، وستبنى على أسس شاملة وذات مصداقية»؛ وأن الرئيس المؤقت أحمد الشرع قد تعهد «بالعمل على تشكيل حكومة انتقالية شاملة تعبر عن تنوع سوريا «نحو انتخابات حرة ونزيهة». عبّر كذلك عن أن نجاح الانتقال السياسي في البلاد أمر ضروري، وأنه «لا يمكن أن يتحمل الفشل».
علام تراهن السلطات الحاليّة إذن في تجنّبها لتلبية ما يتطلبّه الانتقال السياسي الصحيح والمجدي؟ لن تكفي القوة وحدها لذلك، ولا ملل الآخرين من مشاكل هذه البلاد، أو نفض أيديهم منها. ربّما يكون الاستناد إلى القوة سلاحاً ذا حدّين، يستثير المشاكل، اليقِظة منها والنائمة بعد. وسيبقى ذلك، مثله مثل الاعتماد على اكتفاء إسرائيل ـ بحكومتها الحاليّة – باهتماماتها الخاصة في مسألة نزع السلاح في الجنوب الغربي للبلاد مثلاً، أو بقائها على أضعف ما يمكن، أكثر تفكّكاً وأقلّ استقراراً وتماسكاً وقوة. أم لعلّها تراهن على أن تجاهلها المستدام لمسألة الشمول والمشاركة، بدلاً من الإقصاء السياسي والاجتماعي لتعبيرات التعدّدية، ولجمع ما هو متنوّع طائفياً وإثنياً وقومياً، بدلاً من تغذية حرائقه؛ وللضرورة الاستراتيجية للديمقراطية، التي يجري إهمالها في قلب العواصف الراهنة والمحدقة؟
لا تزال آثار ما جرى في منطقة الساحل مع العلويين، وفي السويداء مع الدروز، أمراً يقلق السوريين جميعاً، ويخشون بقاءها تهديداً مسلطاً فوق رؤوسهم أو تفجّرها من جديد. هم ينظرون أيضاً إلى مسار تطبيق الاتفاق ما بين الشرع ومظلوم عبدي لحلّ الخلاف، وتجسير الهوّة بين الموقفين والعقلين والفكرين من خلال الحوار والتوافق والتسوية لا الفرض والقوّة والدماء من جديد.
ما تتطلّبه العملية الانتقاليّة من الحكومة الانتقاليّة لا يخفى على أحد: سيادة القانون، ورفع مستوى التعامل مع حقوق الإنسان والالتزام بلوائحها، وإطلاق الحريّات الأساسية ابتداءً من حرية التعبير وتحرير تشكيل الأحزاب السياسية ونشاطاتها، ومواجهة مشكلة الأقليات بعقلية متنوّرة وحديثة، والتخلّص من عقليّة الإقصاء إلى الإدماج والاندماج: فيما يخص المختلفين فكراً وسياسة وطائفة وقوميةً وجنساً!
نفهم أن ذلك يحتاج إلى تغيّر قبل التغيير، وأنّه يصعب من دون نيّة تسبق الهمّة، وتربية الذات قبل مواجهة الموضوع.. ولا نشعر بأن ذلك سهل يسير، فيغمرنا اكتئاب نحاول إخفاءه بقدر ما نستطيع!
كاتب سوري
- القدس العربي