يُطرح في كواليس المفاوضات، التي تجريها إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، مع الحكومة السورية، مشروع إقامة “ممرّ إنساني” من إسرائيل إلى محافظة السويداء، بذريعة إمداد المحافظة” المحاصرة” باحتياجاتها من الغذاء والأدوية، بعد أن قطعت دمشق عنها سلاسل الإمداد، جرّاء رفض السويداء الخضوع لسلطة الإدارة الانتقالية. اللافت أن مسار الممرّ (المُشار إليه) يعتمد على إحداثيات ممرّ داود، الذي سبق أن سُرِّبت معلومات عنه، ويمرّ (بحسب الخرائط) من القنيطرة إلى درعا فالسويداء، ويكمل طريقه إلى شواطئ الفرات شرقي سورية، في رحلة تهدف إلى اختراق الوضع الجيوسياسي السوري (وتهشيمه)، وتحويل البلاد كانتوناتٍ، ومحاصرة دمشق، إذ يعبر الطريق حوّافها الجنوبية ويطوقها من الشرق.
من الواضح أن إسرائيل لا تتراجع عن مشاريعها، وإن تغيّرت أساليبها وتكتيكاتها، فعندما سُرِّبت فكرة مشروع داود، بدا مشروعاً وهمياً وخيالياً وغير قابل للتطبيق، وأنه مجرّد فرضيات، أو مجرّد عملية عصف ذهني مارسها بعض رجالات الاستخبارات الإسرائيليين لخلط الأوراق في الإقليم المضطرب، وتدعيم موقفهم التفاوضي في سورية، عبر طرح خياراتٍ ذات سقف عالٍ، ثمّ التراجع عنها حينما تبدأ المساومات، ولكن بأثمان استراتيجية عالية. لكنّ إسرائيل في زمن حكم اليمين المتطرّف وصعود اليمين الديني، قوّة مُحاربة وليست مُفاوِضة، تعمل في فرض الوقائع بالقوّة على خصومها، وترسم خرائط النفوذ، وتحدّد الخطوط الحُمر، ولا تترك لخصومها سوى هامش التنفيذ بالإذعان ولعق جراحهم بصمت. والمُلاحظ أن إسرائيل في آخر عامَين بدأت تستقي استراتيجياتها من كتابها التوراتي، وتُعيد عصرنة مفاهيمه واقتباس معاركه، وصناعة سياقات لها ومسارات وممرّات، من غزّة إلى السويداء إلى شواطئ الفرات.
سبق لإسرائيل أن عبثت، إلى حدّ كبير، بمسرح جنوبي سورية، حوّلته ملعباً ومختبراً لتغيير المعادلات وقواعد الاشتباك، عبثت بالتوازنات المحلّية، وقطّعت الجغرافيا عبر عمليات قصّ ولصق، من حضر في ريف دمشق الغربي، إلى آخر قرية في حوض اليرموك. لكنّ إسرائيل، وعلى وقع الديناميكيات الناشئة في سورية، التي تتحمّل إدارة دمشق المسؤولية الأكبر عنها، ترى أن الظروف السياسية السورية، بما باتت تنطوي عليه من حالة عدم استقرار وتراجع للوطنية، فرصة لتشكيل الجغرافية وشكل الدولة، وليس مهمّاً ما ستؤول إليه أوضاع سورية، ما دام السوريون أنفسهم لم يهتمّوا بمصائر بلدهم، فلن تكون إسرائيل أكثر رحمة منهم.
إسرائيل لا تتراجع عن مشاريعها، وإن تغيّرت أساليبها وتكتيكاتها
في سورية، يدفع السوريون ثمن الفشل في إدارة السياسات الداخلية، التي ستقود إلى كوارث جيوسياسية تطرق بوابات الجغرافية بقوّة، بعد أن فُتِحت ثغور كبيرة في الجسد الوطني، سببها (إلى حدّ بعيد) سياسات غير مدروسة ولا واعية أقدمت عليها الحكومة الانتقالية، ومن المفارقة أنها محسوبة على الأكثرية، ويعتبرها الآخرون (عنوة) ممثّلتهم وواجهتهم والمُعبّرة عن فِكَرِهم واستراتيجيّاتهم، في حين أنّهم الطرف الأكثر تضرّراً وتهميشاً في المشهد السوري برمّته.
وفي الجهة المقابلة، وتحت ذريعة المظلومية، تسرح فصائل السويداء العسكرية وتمرح بالعبث في مصير سورية، ولم يعد سرّاً أن هذه الفصائل باتت تُدار من غرف عمليات إسرائيلية، تضع لها الخطط وتدرس المواقف الدولية والفرص الممكنة والثغرات التي يمكن اختراقها في السياسات الدولية، وتطبّق هذه الفصائل بدقّة واحترافية تلك الخطط، والواضح أن رفضها إدخال المساعدات الآتية من دمشق يأتي في سياق الرهان على تدخّل أممي يفرض ممرّاً إنسانياً للسويداء، وبما أن الأردن يرفض هذه الفكرة، لإدراكه مخاطرها الجيوسياسية، فإن ممرّ داود سيكون البديل الشرعي لذلك.
ممرّ السويداء في حال تطبيقه، سيشكّل نصف مرحلة إنشاء وتشغيل ممرّ داود الكبير، إذ إنه سيعبر المنطقة الأخطر، التي تضمّ كثافة سكّانية كبيرة في جنوبي سورية، وسيستلزم تنفيذه إجراء هندسة ديمغرافية واسعة لتأمين سلامة المعبر، وقد عملت إسرائيل على تجهيز هذا الجزء، عبر احتلالها مناطق واسعة من الشريط الحدودي والمناطق الواقعة على تخوم جبل الشيخ، حيث يبدأ مسار الممرّ، وما يتبقّى بعد السويداء، في مسار ممرّ داود، سيكون أقلّ صعوبة لأنه يعبر مناطق صحراوية خالية، يمكن تأمينها بالطائرات المسيّرة، وربّما بقوى كردية من شمال شرقي سورية.
المشكلة أن ممرّ السويداء (في حال تنفيذه)، سيفتح الباب أمام صراع جيوسياسي خطير في المنطقة، يمكن تسميته “صراع الممرّات”، إذ ستتحوّل سورية في الجيوسياسة الإقليمية والدولية ساحة ممرّات، وسيكون كلّ طرف معني بالحصول على الممرّ الذي يحمي مصالحه، ويحقّق له حضوراً جيوسياسياً، في إطار لعبة تقوم على التنافس والصراع، فتعود إيران إلى البحث عن مخرج لممرّ يوصلها إلى بيروت، وستعمل تركيا في تطوير معبر إلى عمق سورية يؤمّن خاصرتها الجنوبية، وقد تفكّر روسيا بترميم ممرّاتها في الساحل وإعادة هندستها من جديد، فضلاً عن الممرّ الصيني ضمن مشروع “الحزام والطريق”، الذي يعبر من الحدود العراقية إلى ميناء اللاذقية، وبذلك تستكمل سورية لعنة الممرّات، بعد أن دفعت أثماناً باهظة للتخلّص من أنها ممرّ لإيران إلى شواطئ المتوسّط.
- العربي الجديد