
“الغموض الذي يحيط بمستقبل قانون قيصر، يضع الشركات الأميركية في وضع تنافسي غير مواتٍ مقارنةً بمنافسينا العالميين، ومن دون الإلغاء الكامل للقانون ستظل الشركات الأميركية مهمشة، بينما تُشكل شركات أخرى مستقبل الاقتصاد السوري”. كانت تلك أهم فقرة في رسالة غرفة التجارة الأميركية إلى المشرّعين في مجلسي الشيوخ والنواب، والتي دعت فيها إلى إلغاء كامل ودائم لـ”قانون قيصر”.
في أسابيع قليلة مقبلة فقط، سيُحسم مصير التدافع بين طرفين مؤثّرين في صنع القرار بالسلطة التشريعية الأميركية، بخصوص مصير نمط العقوبات الشاملة على سوريا، المتمثلة في “قيصر”. الطرف الأول، عبّرت عنه غرفة التجارة الأميركية، وتتطابق معه إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، المتحدرة من الخلفية ذاتها. رؤوس أموال، يفكرون بمنطق استثماري تنافسي. وهو ما ألمح إليه رجل الأعمال، والمبعوث الأميركي إلى سوريا، توم باراك، الذي قال قبل أيام، إن رفع العقوبات عن سوريا ليس عملاً خيرياً بل خطوة استراتيجية لإطلاق أكبر عملية إعادة إعمار منذ الحرب العالمية الثانية.
على الضفة المقابلة، طرف ثانٍ له قوة تأثيرية كبيرة. إنهم الإسرائيليون، والمنظمات المؤيدة لهم في الولايات المتحدة، والذين يمارسون الآن ضغوطاً بهدف عدم إلغاء قانون “قيصر”. ويرتكزون في تبرير ذلك، على الانتهاكات والجرائم التي ارتكبتها قوى محسوبة على سلطات “العهد الجديد” في سوريا، بحق أقليات كالدروز والعلويين. إلى جانب التذرع بمخاوف إسرائيل من خلفية هؤلاء، الجهادية.
ولنفهم كيف تحدث المساومات بخصوص ملف العقوبات على سوريا، بين المختلفين من المؤثّرين في صنع القرار التشريعي الآن، في العاصمة الأميركية، تفيدنا العودة إلى فقرة وردت في رسالة غرفة التجارة إلى مجلسي الشيوخ والنواب، قالت الغرفة فيها إن قانون قيصر لم يعد يخدم المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة، إذ “بينما سُنّ قانون قيصر في الأصل لمحاسبة نظام الأسد على انتهاكاته الجسيمة لحقوق الإنسان، فإن هناك صلاحيات وافرة أخرى من العقوبات التي يمكن من خلالها تحقيق هذا الهدف”. العبارة الأخيرة، هي إشارة إلى قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الصادر مطلع الشهر الجاري، بتمديد حالة الطوارئ الوطنية الخاصة بالوضع في سوريا، والتي تتيح إمكانية فرض عقوبات على شخصيات وكيانات سوريّة، في حال تورطت في تجارة المخدرات أو بنشاطات مرتبطة بتنظيمات إرهابية، أو بانتهاكات حقوق الإنسان.
ورغم قوة النفوذ الإسرائيلي داخل أروقة صنع القرار بواشنطن، يبقى من الصعب تصوّر خسارة صوت رأس المال الأميركي، مع ما يواجهه من منافسة على صعيد الاستثمار العالمي. وبعيداً عن التذرع بانتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب التي كان نظام الأسد يرتكبها بحق السوريين، إبان فرض قانون قيصر، فإن هذا الأخير، فُرض أساساً، في ولاية ترامب الأولى، بغية تقييد قدرة إيران وروسيا والصين، في الإفادة من “انتصارهم” العسكري والسياسي في سوريا، بعيد العام 2018، وتحويله إلى “انتصار” مُستدام، عبر إعادة إعمار سوريا. وقد نجح “قيصر” في تحقيق هذا الهدف للأميركيين. وكانت العروض المقدّمة من أطراف إقليمية، حليفة لواشنطن، لإقناع بشار الأسد بأخذ مسافة من إيران، بصورة خاصة، تستهدف تغيير موضع سوريا في موازين التنافس الإقليمي والدولي. وهو ما تعنت بشار الأسد، في التجاوب معه. قبل أن يتغيّر هذا “الموضع”، قسراً، بسقوط النظام، عشية 8 كانون الأول 2024.
من هذه الزاوية، يمكن أن نفهم جانباً من أسباب هذا الدعم السخيّ لـ”العهد الجديد”، في سوريا، من جانب أطراف إقليمية ودولية، أبرزها الولايات المتحدة. لكن التنافس على سوريا، لم ينتهِ. بل بدأ للتو. إذ قام قادة “العهد الجديد” ببادرة نحو روسيا، وأخرى مرتقبة نحو الصين. مع إشارات علنية لأبعاد استثمارية ممكنة للقوتين الدوليتين، في سوريا. ناهيك عن التنافس داخل المعسكر القريب من واشنطن، ذاته. بين تركيا وبعض الدول الأوروبية. وبين تركيا ودول خليجية. وفي معمعة هذا التنافس، تبدو الشركات الأميركية، حتى الآن، متأخرة للغاية.
تثير سوريا شهية المستثمرين الإقليميين والدوليين. وهي شهية أدركها بشار الأسد منذ العام 2018. إذ تحدث منذ ذلك التاريخ، ولأكثر من مرة، عن كعكة إعادة إعمار سوريا، وأنها ستكون من نصيب حلفائه. قبل أن يدرك لاحقاً أن واشنطن تملك القدرة على إبقاء تلك “الكعكة” في الثلاجة، عبر سلاح العقوبات الشامل، الذي أبقته مسلطاً على هذا البلد.
وبعيد سقوط النظام البائد، أصبح لدى واشنطن خيارين. الاستمرار في إبقاء تلك “الكعكة” في الثلاجة. أو إخراجها، والحصول على نصيب وافر منها. الخيار الثاني مغرٍ لصانع القرار في السلطة التنفيذية بواشنطن، المتحدر من خلفية استثمارية، أساساً. وهو خيار مغرٍ أيضاً لرأس المال الأميركي، صاحب الأثر الأكبر في صنع القرار بأقوى دول العالم.
لذا من الصعب تصوّر، أن صوت الأطراف المؤيدة لإسرائيل، سيغلب، في المساومة الجارية الآن في واشنطن، حول مصير قانون قيصر. وإن حدث ذلك بالفعل، فسيكون خسارة محققة لرأس المال الأميركي الراغب في الاستثمار بسوريا، بسبب محدودية هامش اليقين حيال مستقبل العقوبات. كما أنه سيهدد بانحياز أكبر لـ”العهد الجديد” في سوريا، نحو منافِسي أميركا، روسيا والصين. وسيمثّل إرباكاً لعلاقات إدارة ترامب مع حلفائه في تركيا والسعودية وقطر.
- المدن





















