
رغم تراجع حدّة الصراع المسلّح في سورية، إلا أن بقايا أدواته لا تزال حاضرةً في المشهد السوري من خلال فصائل عسكرية منفلتة لم ترضَ الانضواء في الجيش، وفصائل أخرى تتبع أجندات خارجية. إلا أن أخطر تلك الأدوات فصائل تضمّ مقاتلين أجانب كانوا قد دخلوا البلاد تحت غطاءات أيديولوجية، أو شعارات سياسية متناقضة، فباتوا بعد انهيار النظام البائد بمثابة أدوات ضغط لتعطيل مشروع بناء الدولة السورية دولةَ مؤسّسات وقانون، إضافة إلى أنهم من عوامل تصدّع المجتمع السوري، ولا سيّما أن الحديث يدور عن جماعات مسلّحة مؤدلجة تجنح إلى العنف عند الاصطدام بالدولة، أو بالبيئات الشعبية التي تعيش بين ظهرانيها، وهو ما شهدناه أخيراً في شمال غربي سورية.
التجنيس في سورية الجديدة لا يمكن أن يُنظر إليه جائزةً أو مكافأةً، وإنما هو مسؤولية وانتماء فعلي
وفي الواقع، مشكلة المقاتلين الأجانب استمرار لمرحلة الصراع الدامي والمدمّر الذي عاشته سورية بالنظر إلى جنوح نظام الأسد نحو أقصى العنف في مواجهة أغلبية الشعب، وجنوحه نحو الاعتماد على القوى الخارجية، وخصوصاً روسيا وإيران والمليشيات العسكرية الطائفية التي تتبع لها. بمعنى أننا إزاء مشكلة معقّدة يفترض إيجاد حلول مناسبة لها. على ذلك، يفترض التعاطي مع تلك المشكلة في إطار السعي لترسيخ فكرة الدولة الوطنية، دولة مؤسّسات وقانون ومواطنين، وعبر توحيد المؤسّسة العسكرية، وفي سياق السعي لإنشاء جيش وطني يحمي وحدة الشعب والأرض، وسيادة الدولة في أراضيها بالضدّ من الولاءات العابرة للحدود. في هذا الإطار، بديهي أن تحلّ الدولة المليشيات كلّها ذات الطابع الإثني أو الطائفي، أو إدماجها في الجيش الوطني، باعتبار أن الدولة هي صاحبة احتكار السلاح وفقاً للدستور والقانون، والأحرى بها أن تعزّز هذا المبدأ في إنهاء ظواهر بعض الجماعات العسكرية المتمرّدة، أو المرتبطة بالتمويل والأجندات الخارجية، وبشكل خاص إيجاد حلّ لظاهرة المقاتلين الأجانب. الآن، يطرح بعضهم فكرة تجنيس المقاتلين الأجانب تحت مبرّرات “الاندماج” أو “التسوية الإنسانية”، بيد أن ذلك يخلّ بمفهوم السيادة التي هي للشعب، إضافة إلى أنه يحوّل الجنسية مكافأةً على المشاركة في نزاع دموي، مهما كانت المبرّرات.
فالتجنيس في جوهره حقّ سيادي وقانوني، لا يُمنح على أساس السلاح أو الاصطفاف السياسي، بل عبر معايير تحفظ السيادة وتمنح لمن اختار العيش في سورية واحترم قوانينها، لا لمن حمل السلاح في أرضها، ما يجعل ملفّ المقاتلين الأجانب جزءاً من عقدة التجنيس التي يجب أن تُفكّ بالسياسة والقانون معاً، لا بالمجاملات أو الحلول المؤقتة أو تحت ضغط السلاح.
إن التجنيس في سورية الجديدة لا يمكن أن يُنظر إليه جائزةً أو مكافأةً، وإنما هو مسؤولية وانتماء فعلي يترتب عليهما الخضوع الكامل للقانون والاندماج في المجتمع. فالجنسية ليست ورقةً تُمنح لمجرّد الإقامة أو الوجود على الأرض، بل هي عقد قانوني وأخلاقي بين الفرد والدولة يقوم على احترام القوانين والعادات والهُويَّة الثقافية للشعب.
يجب أن يكون منح الجنسية لأيّ فئة، مقاتلين سابقين أو مقيمين لأسباب إنسانية، مشروطاً بالاندماج الإيجابي في البيئة المحلّية، والالتزام بالعمل والبناء، لا بإعادة إنتاج الولاءات العابرة للحدود أو إحياء الانقسامات. فالتجنيس لا يجب أن يكون مكافأة على الماضي، بل التزاماً مقيّداً بالقانون من أجل الحاضر والمستقبل. ولعلّ الحاجة إلى قانون تجنيس شامل في سورية لا يقتصر على معالجة ملفّ المقاتلين الأجانب، كما يُروَّج، بل يتجاوز ذلك ليشكّل حلّاً وطنياً لقضايا كثيرة عالقة لم تُعالج بوضوح في السابق، فالقانون المطلوب للجنسية يجب أن يضع إطاراً عادلاً لأوضاع الفلسطينيين المقيمين في سورية، والعمالة العربية والأجنبية، التي استقرّت في البلاد منذ زمن طويل، لأسباب مهنية أو إنسانية، إضافة إلى أبناء السوريات المتزوّجات من غير السوريين الذين حُرموا حقّ الانتماء الكامل إلى وطن أمهاتهم.
فتح باب التجنيس أمام الفلسطينيين لا يعني التخلّي عن حقّ العودة، بل يعكس موقفاً إنسانياً ووطنياً
معالجة هذه الملفّات عبر قانون واحد، يصدر عن مجلس الشعب المنتظر، ويستند إلى الدستور المأمول أن يكون شاملاً وجامعاً ومانعاً أيّ التباس، يمكن أن يكون كفيلاً بإغلاق باب الاستثناءات، وتحويل قضية التجنيس من موضوع خلافي، إلى أداة لتعزيز مبدأ المواطنة والعدالة والمساواة في الحقوق المدنية. وفي ما يخصّ الفلسطينيين الراغبين في الحصول على الجنسية السورية، يحتاج التعامل مع هذا الملفّ مقاربة دقيقة ومتوازنة تراعي خصوصيتهم القانونية والسياسية، من دون أن تُقصي حقّهم الإنساني في العيش الكريم والاستقرار، فكثيرون منهم وُلد في أرض سورية، وتعلّم في مدارسها، وعمل في مؤسّساتها، وشارك في نسيجها الاجتماعي والاقتصادي عقوداً طويلة، حتى أصبح جزءاً لا يمكن فصله من المجتمع السوري. ومن هنا، لا يعني فتح باب التجنيس أمام من يرغب منهم، وفق ضوابط قانونية واضحة تصدر عن مجلس الشعب وتستند إلى الدستور، تخلّيهم عن حقّ العودة أو المساس بالثوابت القومية، بل يعكس موقفاً إنسانياً ووطنياً ينسجم مع تاريخ سورية الشعبي في احتضان الفلسطينيين ودعم قضيتهم.
بهذا المعنى، يصبح التجنيس جسراً نحو التسوية الوطنية الشاملة، وليس أداةً سلطويةً تقرب بها من تشاء من دون معايير مُعلًنة ومتّفق عليها شعبياً وقانونياً ودستورياً، لا كما وظّفها نظام بشار الأسد لخدمته في حربه على الشعب السوري. فالقانون هو الضامن لوحدة المجتمع وتماسك الدولة في مرحلة ما بعد الحرب التي قد تمدّ ألسنتها من جديد، ما لم تعالج القضايا المحلية كلّها وفق مبدأ التشاركية والمواطنة المتساوية.
- العربي الجديد






















