فتحت قضية “فرقة الغرباء”، التي أثيرت بعنف مؤخراً، موضوعاً لم يُغلق منذ أن طُرح في الحياة السورية العامة لأوّل مرة، أواخر العام 2024، عندما رفّعت (عيّنت) “القيادة العامة” وقتئذ، بعض كبار ضباط الجيش الوليد، بينهم ستة من غير السوريين.
وقد طرح الصدام الأخير، بين قوات “الأمن الداخلي” بإدلب وبين المهاجرين الفرنسيين المجتمعين حول قائدهم عمر أومسين، أسئلة تتجاوز محاولة اقتحام معسكر مسوّر ومحصن، وقصفه بالسلاح الثقيل، إلى التساؤل عن نية الحكومة السورية الانقلاب على الجهاديين المهاجرين، مبتدئة بهذه المجموعة التي نَسبت إلى متزعمها اتهاماً متعجلاً بخطف طفلة في حالة هي، بالتدقيق، خلاف على الحضانة بين أبوين فرنسيين منفصلين.
وبين هاتين الواقعتين طفا ملف المقاتلين الأجانب وغاب، لكن معظم حالات ظهوره كانت خارجية؛ إما تطميناً للولايات المتحدة الأميركية بأنهم لن يشكلوا تهديداً للمجتمع الدولي، أو مباحثات غير معروفة التفاصيل عن رعايا هذه الدولة أو تلك منهم، وتعهدات معلنة باحتوائهم.
وباستقراء محطات تناول هذه المسألة، على امتداد الأشهر العشرة الماضية، صار في الإمكان تبيّن معالم سلوك السلطة في هذا الملف عبر مجموعة من النقاط:
- ينظر الحكم السوري الجديد -الذي استقرت مفاصله الفاعلة بأيدي قادة من “هيئة تحرير الشام”- إلى الجهاديين الأجانب، كما كانت تنظر “الهيئة” إليهم في إدلب؛ توقيراً نظرياً بسبب هجرتهم لمساعدة “إخوانهم” السوريين في حربهم المضنية ضد نظام الأسد، وصولاً إلى مشاركتهم في معركة “ردع العدوان” الأخيرة التي أسقطته.
أما من ناحية عملية فيبدو أن المهاجرين لا يحظون بأي معاملة خاصة، لا تفضيلية ولا تجنبية، فيعامَلون كالسوريين من جهة التعيينات في الوظائف الحسّاسة بالنظر إلى الكفاءة الموالية، سواء أكان ذلك في مناصب مدنية مؤثرة في الوزارات والهيئات العامة، أو ضباطاً قادة مع قواتهم التي تركزت أساساً في “الفرقة 84” من الجيش الجديد.
وربما يتناسل ذلك من أن “جبهة النصرة”، جذر الحكم الحالي، تشكّلت أساساً من مهاجرين سوريين كانوا في العراق، على رأسهم “أبو محمد الجولاني” (أحمد الشرع)، ومن مهاجرين عراقيين قدموا معهم إلى سوريا، مما جعل عوامل الحدود والجنسيات غير حاسمة.
- لسببٍ غير مفهوم لم تُسبَق هذه التعيينات، ولم تُلحَق حتى الآن، بمحاولات منح المهاجرين الجنسية السورية، على الرغم من تيسّر ذلك لسلطة “تمسك القلم” الأخضر بيدها ولا تتوانى عن إصدار المراسيم والقرارات من دون خوف من المساءلة.
ومن الملاحظ أن الدعوة التي ظهرت إلى منح المهاجرين الجنسية لم تخرج من أوساط الفاعلين منهم، بل من صحافي أميركي مهاجر، معروف بمعارضته القوية للحكم، هو بلال عبد الكريم.
- على خلاف الاتهامات الكثيرة، وقلق شرائح من المهاجرين أنفسهم، لا تتوافر أدلة جدية على رغبة السلطة في “حل الملف” عبر تسليم هؤلاء إلى بلدانهم، وهي تعلّل ذلك بدواعي “الوفاء” لدورهم، والقلق على مصائرهم بالنظر إلى التهم التي سيواجهونها على الأرجح.
وهنا تجدر الإشارة إلى مسألة بالغة الأهمية هي التمييز بين الدول على أساس رغبتها في استلام المهاجرين الذين يحملون جنسيتها، فمن الملاحظ أن البلدان التي يسود فيها القانون، أي دول أوروبا الغربية، والتي ستضطر إلى إجراء محاكمات طويلة ومعقّدة بعيدة عن الشهود وموقع الأحداث، تفضّل تجاهل رعاياها هؤلاء.
وهذا أمر واضح في حالة “الدواعش” السجناء في مناطق سيطرة “قسد”، والذين ترفض دولهم استلامهم رغم المتابعات، بل تتلكأ حتى في استلام نسائهم والأطفال المتحدرين منهم.
ليست هناك مؤشرات على نية السلطة طرح موضوع المهاجرين للتداول العام أو للنقاش القانوني الحر، وهي تنطلق فيه من رؤيتها الخاصة من دون حوار..
وقد اتضح مجدداً مع التصريحات الرسمية حول “فرقة الغرباء”، والتي قالت إن فرنسا تفضّل أن يُحاكَم مواطنوها من الجهاديين “في المكان الذي ارتكبوا فيه أعمالهم”، وهو ما تقدّمه السلطة السورية الجديدة التي تتعهد باحتواء المهاجرين لئلا يشكّلوا خطراً على دولهم وعلى العالم لو سهّلت لهم طريق الخروج أو أجبرتهم عليه.
أمّا الدول التي تريد استرداد رعاياها فيبدو أنها تلك التي تريد اجتثاث ظاهرتهم بشكل نهائي، وتعرف أنها تستطيع ألا تقلق من إجراءات التقاضي، السرية والموجزة، طالما أن أنظمتها ستؤدي إلى إعدام قادة هؤلاء وسجن الباقين لسنوات طويلة، وفي هذه الحالة نفكّر في روسيا والدول المسلمة التي تدور في فلكها، والتي ينتمي إليها الشيشان والأوزبك والطاجيك، وفي الصين التي أتى منها التركستان (الإيغور)، أكبر الجاليات المهاجرة في سوريا.
كذلك، في مسائل هامة أخرى، ليست هناك مؤشرات على نية السلطة طرح موضوع المهاجرين للتداول العام أو للنقاش القانوني الحر، وهي تنطلق فيه من رؤيتها الخاصة من دون حوار، مستندة إلى دعم جمهور عريض من السوريين يشاركها في ضرورة “الوفاء” ولكن من دون أن يحدّد له شكلاً محدداً من تولي مناصب، بعضها حسّاس، في الدولة.
وذلك في مواجهة جمهور، عريض هو الآخر، فغر فاه حين حُلّت قضية “فرقة الغرباء” على يد “المشايخ” (أبو محمد تركستان، وعبد العزيز أوزبك، وأبو أنس طاجيك)، من دون حضور ممثل عن وزارة الداخلية التي أطلقت الصدام، وبحضور من وقّع بلقب “أبو عبدو طعوم” (عبد الحميد سحاري) بوصفه ممثلاً عن الحكومة السورية كمسؤول للعلاقات في وزارة الدفاع، التي تبيّن أن مجموعة عمر أومسين الفرنسية تنتمي إليها ورقياً تحت عباءة جماعة “أنصار التوحيد”، التي شكّلت “الفرقة 82” من الجيش، وتضم سوريين ومهاجرين على حد سواء، ويقودها خالد خطاب، أمير الجماعة الذي مُنح رتبة عميد!
- تلفزيون سوريا






















