وائل السوّاح
إذا حقق الشرع قطيعة معرفية وتاريخية مع المرحلة السابقة سارت نحو تأسيس جمهورية جديدة بمضامين جديدة وقيم جديدة تتماشى مع القيم المعاصرة، فستكون سوريا قد وضعت أولى خطواتها على طريق الجمهورية الثالثة. أما إذا فشلت، فلن تكون في أحسن الأحوال سوى الجمهورية الثانية والنصف، التي ستكون خيبة أمل كبرى لمعظم السوريين، بمن فيهم أنصار الرئيس الشرع أنفسهم.
في عام 2023، احتفلت تركيا بمرور قرن على تأسيس جمهوريتها على يد مصطفى كمال أتاتورك. ولم تمرّ المناسبة دون تذكّر صراع قديم ظلّ دون حسم: ذلك النزاع بين العلمانية والإسلام السياسي، الحداثة والتقاليد، أسطورة تأسيس الجمهورية وسردية جديدة تسعى إلى زحزحتها. تحوّلت قصّة تركيا خلال مئة عام إلى حوار بين رجلين لم يلتقيا قط. أوّلهما كان جندياً صارم الملامح والسلوك، بنى جمهورية علمانية من رماد إمبراطورية منهارة، والثاني هو السياسي الكاريزمي الذي يسعى إلى استعادة الإرث الإسلامي للبلاد وإعادة تشكيل مصيرها السياسي.
قد يكون هذا “الحوار بين الأشباح”، كما يسمّيه بعض الكتّاب الأتراك، دراما تركية خالصة، لكنّه يفتح نافذة واسعة على مشهد مألوف في الشرق الأوسط. فغير دولة عربية تقف اليوم عند عتبة لحظة مشابهة: جمهوريات دخلت مرحلة أفول، وفاعلون جدد يسعون لوراثتها؛ دول مركزية ذات إرث علماني تتجاور مع حركات شعبوية ذات خطاب ديني؛ وزعماء يَعِدون بفتح صفحة جديدة في مواجهة أنظمة خبرتها شعوبهم عبر عقود طويلة من الخيبات.
ولا مكان يتجلّى فيه هذا التوتّر أكثر من سوريا ما بعد الأسد. فأحمد الشرع، في سعيه لإعادة بناء بلد أنهكته الديكتاتورية والحرب والاحتلال الأجنبي، يواجه المفترق الأيديولوجي ذاته الذي رسم ملامح قرن تركيا المنصرم. أمامه طريقان، أوّلهما أن يستلهم مشروع أتاتورك في بناء الدولة الحديثة، البراغماتية المنفتحة على العالم، أو خيار أقرب إلى نموذج أردوغان الذي يمزج بين الشرعية الدينية والسياسة الشعبوية والسلطة المطلقة.
لكنّ سوريا ليست تركيا، فلحظة الشرع أكثر هشاشة وأشدّ خطورة، والبلد الذي يقوده أضعف وأكثر تنوّعاً، جراحه أعمق وانقسامه أشدّ، ولكنّه مع ذلك ربما كان أكثر يقظة سياسية. لا يمكن استنساخ ثنائية أتاتورك- أردوغان التركية ببساطة. ولأن سوريا لا تحتمل التأرجح بين استبداد علماني وأغلبية دينية حاكمة، يبرز خيار آخر ممكن. إنه “الممرّ الضيّق” – النظرية التي صاغها عالما الاقتصاد التركي دارون عجم أوغلو والأميركي جيمس روبنسون— كطريق ثالث لم يبلغه لا أتاتورك ولا أردوغان: دولة قوّية بما يكفي لفرض النظام، لكنّها مقيّدة بما يكفي لتسمح للحرّية والتعدّدية أن تتجذّر.
لفهم أهمّية هذا الخيار، لا بدّ من العودة إلى الصراع التركي ذاته.
أوّلاً: رؤيتان لتركيا: قرن من التنازع
أتاتورك، المؤسّس بوصفه الوحش الثوري: يُعدّ مصطفى كمال أتاتورك أحد أبرز شخصيّات القرن العشرين. خرج من رماد إمبراطورية منهارة، ليصوغ جمهورية جديدة عبر برنامج صارم من التحديث العلماني. ألغى الخلافة، ومحا الحرف العثماني، وحظر اللباس التقليدي. مركزَ التعليم، وربط تركيا بأسطورة وطنية ذات توجّه غربي.
رأى أتاتورك في الدين بقايا تخلّف، وفي التغريب ضرورة حضارية. كانت إصلاحاته ثورية، وغالباً استبدادية. لذلك لم تأتِ الجمهورية ثمرة تفاوض، بل فُرضت فرضاً. تحوّلت الدولة إلى محرّك للتغيير، والمجتمع إلى راكب متردّد.
أردوغان، المنافس بوصفه الوحش المضادّ للثورة: دخل رجب طيب أردوغان المسرح السياسي بوصفه نقيض أتاتورك. نشأ في أوساط محافظة مهمّشة اقتصادياً وثقافياً من قِبل الكمالية. صعد عبر السياسة المحلّية ليجسد انتقام الهويّة من المركز. وعد حزبه، حزب “العدالة والتنمية”، بإعادة الكرامة للمحافظين دينياً، وتوسيع الفرص الاقتصادية، وتخفيف قبضة النخبة العلمانية عن الحكم.
ولعقد من الزمن، بينما كان أردوغان يقود سياسة إصلاحية في بلاده، كان أيضاً يسعى إلى إعادة كتابة أسطورة تأسيس الجمهورية، فحوّل آيا صوفيا إلى مسجد (من جديد)، وأضعف المؤسّسة العسكرية، الكمالية الهوى قلباً وقالباً، وركّز السلطة في الرئاسة، وانتهج سياسة خارجية “عثمانية جديدة” امتدّت من البلقان إلى سوريا. ويستخدم أردوغان ما يسمّيه “القرن التركي” ليشكّل أسطورة تأسيسية جديدة تهدف إلى طمس إرث أتاتورك.
البندول: من الاستبداد العلماني إلى الشعبوية الدينية
قبيل وفاته، زار فؤاد عجمي إسطنبول خلال احتجاجات حديقة جيزي (2013)، ورصد خطوط التماس الثقافية التي تشطر المجتمع التركي. ولاحظ كيف كانت صور أتاتورك ترفرف مع الأعلام التركية في مقاهي بيبك المطلّة على البوسفور، فتعكس ثقة مجتمع مديني علماني. وعلى الجانب الآخر من المدينة، في ساحة تقسيم، كانت شرطة أردوغان تلاحق شبّاناً يدافعون عن آخر متنفّس عامّ في مدينة تغيّرت ملامحها تحت تأثير نزعة عثمانية متجدّدة. قرأ عجمي في المشهد انقساماً عميقاً حول هويّة الجمهورية واتّجاه مستقبلها.
وقد وصف الكاتب الأميركي المختصّ في قضايا سوريا وتركيا إليوت آكرمان، السياسة التركية بأنها حركة بندول لا تهدأ، تتأرجح بين علمانية صارمة ورثها الجيش عن أتاتورك، وسياسة دينية شعبوية جسّدها أردوغان وأنصاره. ويضيف أن أياً من النموذجين لم ينجح في تحقيق توازن مستدام. فالعلمانية حين سيطرت ضيّقت على الممارسة الدينية، والإسلام السياسي حين صعد قوّض التعدّدية وهدّد استقلال المؤسّسات. وهكذا ظلّت الجمهورية، إذا استعرنا عبارة صامويل هنتنغتون “دولة ممزّقة” تبحث عن تعريف ثابت لذاتها.
هذا الخلاف الذي لم يُحسم، يختزل إرث تركيا السياسي، ومن خلاله تبدو معضلة سوريا أوضح وأعمق. فالدول التي تُبنى على سردية واحدة مغلقة – مهما كانت علمانية أو دينية – تحمل في داخلها بذور الشقاق. وسرعان ما يتصدّع ذلك البناء عندما تختلّ موازين القوّة، أو عندما تشعر إحدى الجماعات أنها مهمَّشة داخل سردية لا تعترف بها. وتكشف التجربة التركية لمن يريد أن يرى أن الهويّة المفروضة من الأعلى لا تصمد طويلًا أمام تحوّلات المجتمع، وأن الانتصار الساحق لنموذج واحد سرعان ما يتحوّل إلى إقصاء للنموذج الآخر.
في سوريا، تبدو هذه الإشكالية أكثر حدّة. فتركيا، رغم انقسامها الاجتماعي والسياسي، امتلكت دولة قائمة وجيشاً متماسكاً ونظاماً إدارياً صلباً ساعدها على الاستمرار وسط الأزمات. أما سوريا الخارجة من عقود الاستبداد ومن حرب مدمرة، فهي لا تملك شبكة مؤسّسات تحميها من الانهيار أو تضمن انتقالاً متّزناً. لذلك فإن أيّ مشروع يقوم على غلبة طرف – سواء اتّخذ شكل “أتاتورك سوري” يحاول فرض علمانية جديدة، أو “أردوغان سوري” يسعى لصياغة دولة ذات طابع ديني – لن يكون إلا إعادة إنتاج للصراع، وربما في صورة أشدّ قسوة.
تقدّم التجربة التركية لسوريا درساً جوهرياً: حين تتحوّل الهويّات الكبرى إلى أدوات سياسية فإنها تُقسّم أكثر مما توحّد. ومعضلة سوريا ليست مجرّد اختيار بين نموذجين، بل كيفية تفادي الثنائية أصلاً، وبناء صيغة وطنية لا تستند إلى غلبة أحد المكوّنات، بل إلى توازن يتيح لكلّ مكانه داخل دولة مشتركة.
ثانياً: سوريا بعد الأسد: الزعيم بين نموذجين
يرث أحمد الشرع بلداً انهار فيه النظام القديم دون أن يتبلور توافق جديد. إنه ثائر مضطرّ لأن يصبح رجل دولة، قائد جهادي سابق بات يتحدّث بلغة الدبلوماسية. أفاق ذات صباح فوجد نفسه زعيماً يسير في درب وعر، بين مجتمعات مثخنة بالحرب والريبة.
وكما خرج أردوغان قبل عقدين من هامش الحياة السياسية، خرج الشرع من قلب التمرّد الإسلامي الذي تحدّى حكم الأسد. وكما تولّى أتاتورك قبل قرن قيادة جمهورية تنهض من تحت الأنقاض، يتولّى الشرع اليوم مسؤوليّة إعادة بناء وطن محطّم. هذه الثنائية تجعله عرضة لإغراءين متناقضين:
١. إغراء أتاتورك: بناء الدولة المدنية الحديثة والقوّية
بإمكان الرئيس الشرع أن يركّز السلطة، ويؤسّس هويّة مدنية، ويستخدم مؤسّسات الدولة لتحديث المجتمع، ويحتوي الجماعات الدينية، ويحقّق الاستقرار عبر جهاز إداري منضبط، وهذا ما سيرحّب به كثير من السوريين المنهكين من الحرب، والراغبين في سيادة القانون والنظام وتأمين اليقين الذي قد يوفّره هذا المشروع.
لكنّ نموذج أتاتورك ينطوي على خطر الانزلاق نحو الاستبداد. فالدولة السورية، بعد إعادة بنائها، قد تستعيد ردود الفعل القمعية التي ميّزت حكم البعث، وقد تؤدّي العلمانية المفروضة من الأعلى إلى نفور شرائح دينية واسعة، كما حدث في تركيا.
٢. إغراء أردوغان: بناء الأمّة على أسس دينية شعبوية
في المقابل، يمكن للشرع أن يوظّف شرعيته الثورية، ويعزّز جذوره الإسلامية، ويؤسّس نظاماً سياسياً يجعل من الهويّة الإسلامية أساساً أخلاقياً للدولة الجديدة. في هذا السيناريو، يقدّم نفسه بوصفه الزعيم الذي أعاد الكرامة للأغلبية السنّية واستعاد “الهويّة الثقافية الأصيلة” لسوريا بعد عقود من العلمانية البعثية.
على هذا الطريق محفوف بخطر الاستبداد الأغلبي، على الطريقة الأردوغانية، تصان فيه آلية الاقتراع شكلاً، فيما يعاد تشكيل مضمونها عبر مؤسّسات تخضع تدريجياً لهيمنة الحركة الحاكمة. وفي ظلّ هذا المسار، تتراجع التعدّدية من الأطراف نحو المركز، وتبدأ الأقلّيات – الدينية والقومية والسياسية – في الشعور بأن الدولة لم تعد إطاراً جامعاً، بل أداة تتحرّك وفق إرادة كتلة اجتماعية واحدة. وهذا ما نبّه إليه ألكسيس دو توكفيل في حديثه عن “طغيان الأغلبية”، اللحظة التي تتحوّل فيها الأغلبية من تعبير ديمقراطي مشروع إلى قوّة ترى في خياراتها الحقيقة الوحيدة، وتعيد عبرها تعريف الهويّة الوطنية بطريقة تستبعد مكوّنات أخرى، أو تقلّص حضورها في المجال العامّ.
في مثل هذا النموذج، تبقى الواجهة ديمقراطية، لكنّ البنية العميقة للنظام السياسي تميل إلى تركيز السلطة وإخضاع كلّ ما حولها، بحيث تبدو صناديق الاقتراع وسيلة لإعادة إنتاج الحكم، أكثر من كونها آلية للتداول أو الضبط. ومع مرور الوقت، ينكمش الحيّز الذي يمكن فيه للاختلاف أن يُعبّر عن نفسه، ويتحوّل التعدّد إلى مصدر تهديد بدل أن يكون قيمة مضافة، فتفقد الدولة قدرتها على احتواء تنوّعها الطبيعي، وتخسر المجتمعات الهامشية ثقتها بجدوى المشاركة أصلاً. والتاريخ يعلمنا أن كلا النموذجين، العلماني والديني، يميل إلى الاستبداد.
ثالثاً: لماذا لا يكفي نموذج أتاتورك ولا أردوغان لسوريا
تُظهر تجربة تركيا أن الأساطير التأسيسية، حين تتحوّل إلى أرثوذكسية جامدة، تولّد حلقات مفرغة من الردّة والانتقام. فالجمهورية العلمانية التي أسّسها أتاتورك استفزّت صعود أردوغان، وجمهورية أردوغان الإسلامية أعادت إحياء الحنين إلى الكمالية. لم ينجح أيّ من الرؤيتين في بناء توازن دائم بين الدولة والمجتمع.
على أن سوريا لا تحتمل تكرار هذا التأرجح. فتركيبتها السكّانية أكثر تنوّعاً، ومؤسّساتها أضعف بكثير، وهي مثخنة بالثلوم الاجتماعية. العلمانية المفروضة قد تشعل المقاومة، والهيمنة الدينية قد تمزّق البلاد من جديد. لذلك، سوريا بحاجة إلى نموذج سياسي لا يُصمم للانتصار على الخصوم، بل للتعايش معهم. وهنا يصبح “الممرّ الضيّق” ضرورة لا غنى عنها.
رابعاً: الممرّ الضيّق: طريق ثالث للشرع ولسوريا
تقدّم نظرية “الممرّ الضيّق” التي صاغها عجم أوغلو وروبنسون في كتابهما “الممرّ الضيّق” (The Narrow Corridor) إجابة عن معضلة هوبز الشهيرة. كان هوبز يرى أن الفوضى لا يكبح جماحها إلا وجود “لوياثان” (الوحش الهائل المذكور في العهد القديم) قويّ لا تحدّه قيود، في حين اعتقد الثوريون الليبراليون أن المجتمع يجب أن يهيمن على الدولة. لكنّ التاريخ أثبت أن كلا الرأيين ناقص، فالدولة المطلقة تتحوّل إلى طغيان، والمجتمع المنفلت يتحوّل إلى غوغاء.
الحرّية لا تولد إلا حين تنمو الدولة والمجتمع معاً، كلّ منهما يقيّد الآخر في صراع دائم. هذا التوتّر، بل هذه المعركة المستمرّة، هو جوهر “اللوياثان المقيّد”، وهذا ما يجب أن يكون الحال عليه في سوريا من دون علمانية أتاتورك أو إسلاموية أردوغان.
فما شروط سوريا لبناء “لوياثان مقيّد”؟ لدى سوريا، رغم ما مرّت به من مآسٍ، مقوّمات قد تتيح لها دخول هذا الممرّ الضيّق. فالمجتمع السوري اليوم أكثر يقظة سياسياً، بعد اثنتي عشرة سنة من الحكم الذاتي والتعبئة والمعاناة، ولا يغرّنك المدّ الشعبوي العارم على السوشال ميديا. وقد نشأت فيه خبرات مدنية وشبكات محلّية قادرة على الفعل السياسي. كما أن المجتمعات المحلّية باتت تملك إرادة سياسية حقيقية لا يمكن تجاوزها. يضاف إلى ذلك جاليات سورية في الخارج، بات لها تأثير مستقلّ، وصوت مسموع في النقاش العامّ.
أما الدولة الانتقالية، فلا تزال، رغم التقدّم الكبير الذي أحرزته، ضعيفة إلى حدّ لا يسمح لها بالهيمنة على كامل البلاد، لكنّها في الوقت ذاته ضرورية ولا يمكن الاستغناء عنها. ولكنّ الزعيم الذي يتصدّر هذه المرحلة لا يستطيع أن يحكم إلا بالتفاوض، والتوافق، والقبول بقيود مؤسّسية تفرضها طبيعة المرحلة وتوازنات القوى. إن ضعف الدولة السورية من جهة، وصلابة المجتمع السوري التي صقلتها الحرب من جهة أخرى، هما ما يجعل هذا الممرّ ممكناً، بل ضرورياً، والسؤال هو: هل يدرك الشرع هذه الفرصة؟
خامساً: خيار الشرع بين تأسيس جمهورية مُقيّدة وإدارة دورة جديدة من التأرجح
إذا حكم الشرع على طريقة أتاتورك، فقد تنعم سوريا بالاستقرار، لكنّها تخاطر بالعودة إلى الاستبداد. وإذا حكم على طريقة أردوغان، فقد يكسب ولاء مؤقتاً، لكنّه سينفّر شرائح واسعة ويشعل الصراع من جديد. كلا الطريقين يقود في النهاية إلى ارتداد، وربما إلى انهيار.
أما “اللوياثان المقيّد”، فهو نموذج يقيد الرئيس بقدر ما يمنحه من سلطة، ويستلزم من أحمد الشرع أن يحدّ من صلاحياته طوعاً، وأن يمنح القضاء القدرة على نقض قراراته، وأن يفسح المجال أمام اللا مركزية والحكم المحلّي. عليه أن يشارك السلطة مع مختلف مكوّنات المجتمع السوري، من المسيحيين والمسلمين، السنّة والعلويين والكرد والدروز، متدينين وعلمانيين، وأن يبقي الجيش تحت رقابة مدنية صارمة، وأن يرعى صحافة ومجتمعاً مدنياً قادرَين على مساءلته، وأن يقبل بالتعدّدية السياسية، حتى لو كلّفته شخصياً.
هذا الطريق ليس طريق البطل المؤسّس، ولا طريق المخلّص الكاريزمي. إنه طريق الدستوري، رجل الدولة الذي يدرك أن الحرّية والاستقرار لا ينبعان من انتصار الفرد، بل من قدرته على ضبط نفسه والخضوع لقواعد مشتركة.
إذا نجح الشرع، فلن يكون أتاتورك سوريا، ولا أردوغانها. سيكون شيئاً أعلى وأثمن. سيكون مؤسّس الجمهورية السورية الثالثة، الجمهورية المحميّة من حكّامها، لا تلك الخاضعة لهم. وبذلك سيفتح التاريخ له أبوابه، كما تفعل الدول العظمى اليوم. أما إذا فشل، فقد تعود سوريا إلى البندول التركي، ولكن بشكل أشدّ عنفاً، وأكثر هشاشة.
يمكن تقسيم تاريخ سوريا الحديثة المستقلّة، بشيء من العسف، إلى مراحل ثلاثة. الأولى سوريا ما قبل حكم البعث؛ الثانية مرحلة حكم البعث والأسدين؛ والثالثة المرحلة الراهنة. وهي مربط الفرس ومعقد الرجاء.
إذا حقّق الشرع قطيعة معرفية وتاريخية مع المرحلة السابقة، سارت نحو تأسيس جمهورية جديدة بمضامين جديدة وقيم جديدة تتماشى مع القيم المعاصرة، فستكون سوريا قد وضعت أولى خطواتها على طريق الجمهورية الثالثة. أما إذا فشلت، فلن تكون في أحسن الأحوال سوى الجمهورية الثانية والنصف، التي ستكون خيبة أمل كبرى لمعظم السوريين، بمن فيهم أنصار الرئيس الشرع أنفسهم.
-كاتب سوري
- درج


























