وهي على أبواب الذكرى الأولى للنصر وسقوط نظام الاستبداد، تتأرجح سورية الجديدة على حافة هاوية، قد تودي بلحمتها الوطنية. كانت أحداث حمص مسوّغاً لرغبة “قسد” مشاركة العلويين والدروز في التفاوض مع الحكومة، معلنة تعمّق المشاريع الخارجية لتفترس ما تبقّى من النسيج الموحّد، وليضع الجميع أمام خياري النهوض وطناً سيداً موحّداً، أو الغرق في مستنقع الكيانات الهشّة والمبتورة.
وجاءت احتجاجات الساحل الأخيرة، لتبرهن أنها لم تكن مجرّد تململ عابر، بل محاولة لاستغلالها كورقة ضغط طائفية من قبل أطراف تسعى للتفكيك والفتنة. إلا أن حماية الأمن العام للتظاهر ومنع انفلاته، قد أجهض تلك الأجندات ورهاناتها، وحوّله مطلباً مشروعاً يعبّر عن حرية تكفلها الدولة وتدافع عنها، فكان واحداً من إنجازات الثورة، هذا الإجراء كان انتزاعاً سيادياً حاسماً لورقة التمثيل من أيدي القوى الساعية لـتأجيج الصراع، محوّلاً طموحها إلى قضية وطنية خالصة.
وفي هذا التحوّل يُضرب رهان مشاريع الوكالة؛ فعلى الرغم من دعوة “غزال غزال” للتظاهر، وارتفاع المطالب الشعبية محميّة بقوى الأمن العام، وقد حيّاها المتظاهرون، انهار وَهْم الاستقواء بمشاريع المكوّنات الخارجية. لقد أجهض هذا التحرّك سيناريو الصدام الطائفي، مكرّساً المطالب الاجتماعية، ومتمايزاً عن دعوات التفكيك في السويداء، حيث أقدم “الهجري” على رفع علم إسرائيل وصورة نتنياهو، مصعّداً موقفه ضد الدولة باستعراضات فلوله ومهرّبيه مطالباً بالانفصال، ممّا كشف عمّن يسعى لتخريب السلم الأهلي وتقويض الوحدة.
ألاعيب “قسد” محاولة لاختطاف الإرادة الوطنية، لتجعل من نفسها منسّقاً وناطقاً باسم الدروز والعلويين وبعض الكرد، فتثقّل دورها على الطاولة، وترفع سقوف مطالبها، باستخدام التحشيد الداخلي والخارجي وقوداً لإطالة أمد التلاعب بمصير السوريين، في وقت يعمل الجميع لإسقاط قانون “قيصر”، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تتخلّص من كونها داعية “روجافا” في الجزيرة السورية، فتتملّص من ارتباطها بحزب العمال الكردستاني الإرهابي، وتتابع حَبْكَ تحالفات منظورة ومستورة مع كل ما يحقّق أوهامها. إن الدور المحوري لقسد يمثل تحدّياً وجودياً للسيادة بالتمسّك بـاستقلالية عسكرية، وفرض شروطها ومطالبها باسم كل المكوّنات، ومحاولة تدويل دورها أو تعريبه، والتلويح بـمشروع التفكيك المعرقِل لنهوض سورية وتحويلها مناطق نفوذ بقشرة دولة وهميّة. ولن تكون النواتج غير شلّ مسارات التعافي الاقتصادي، وعرقلة إنجاز العدالة الانتقالية، وتأخير صياغة عقد اجتماعي جديد يلملم الشتات؛ بخلط أوراق المشكلات الداخلية وابتزاز الحكومة بشروط جديدة بينما يقترب تنفيذ استحقاق 10آذار.
رَفْعُ المحتجّين سقف مطالبهم، كان مناسبة لإعلان الدولة الجديدة ضمانها وحمايتها للحرّية التي نادى بها ثوّار 2011 وواجهها النظام بالرصاص. وما تظاهرات الساحل واحتجاجاته إلا تجسيد لسورية المستقبل، سورية المتنوّعة إثنياً ودينياً التي تنهض بردم هوّة فقدان الثقة والشكّ. فكلّ القضايا المطلبية تُطرح، والقضايا الدستورية والحقوقية تناقش، من شكل الدولة إلى تفاصيل الحقوق والواجبات. فاللامركزية الإدارية، مثلاً، سدّ منيع ضدّ التفتيت، لكنها تتطلّب ثقة متبادلة لتتحوّل ركيزة دستورية للوحدة لا مقدّمة للانفصال كالفيدرالية! أمّا التأخّر بالعدالة الانتقالية وجبر الضرر، فيدفع للمطالبة بإطلاق سراح قادة الفلول والمجرمين والكبتاغونيين.
إن التباطؤ ببناء جسور الثقة والعدالة، سيقود إلى التفكّك، وسيجد السوريون أنفسهم يعيشون بشبه دولة بلا قرار، لا يمتلكون سوى عريشة للوهم، وشبح كيان عجز عن حماية مصيره لفشله في بناء سلم أهلي، جوهره قيام سورية دولة مواطنة وقانون وكرامة وعدالة وحرّية.
- رئيس التحرير























