ثمة فجوةٌ لا يمكن تجاهلها بين مواقف السوريين داخل البلاد والمزاج خارجها، فجوةٌ يمكن تفسيرها بالجغرافيا، وعلاقة الأمر بدرجة الاحتكاك اليومي بواقع سوريا ما بعد زوال الأسد، وطبعاً دون إهمال وزن الألم وعمق التجربة الشخصية.
المعارضون السوريون للأسد، وأنا أتحدث عن هؤلاء حصراً في كامل مادتي هنا، الذين عاشوا سنوات الانهيار، فكانوا شهوداً على دوّامة العنف، معظمهم دفعوا أثمانها من أمنهم ورزقهم وأحياناً من حياة أفراد عائلاتهم، تحوّلوا تدريجياً لرؤية الأمور وقياسها بميزانٍ مختلف تماماً عن السوريين الذي صاروا يتنفسون السياسة بحرّية تامّة من وراء الحدود.
الأخيرون، موالون ومعارضون للحكم الجديد، يحلمون اليوم بالتغيير من دون دفع كلفته، ونراهم، بتكرار مستميت، يستهلكون خطاباً متوتراً دون إدراكٍ بأن لغتهم المتشنجة تلك هي نتيجة المنفى، ونادراً ما تتواءم مع ما يتطلّبه الواقع السوري الجديد.
يمكن وصف ما يفكّر به أهل الداخل، أستثني هنا المنفيين ذاتياً لأسباب إيديولوجية، بأنه واقعية ما بعد الانهيار.
إن معظم السوريين في الداخل، المعارضين للأسد بمختلف أطيافهم، تحوّلوا إلى مدرسة سياسية واقعية، يقيسون المواقف بالنتائج، ويفضّلون تسوية غير كاملة على حربٍ كاملة..
من يتجوّل اليوم في أي مدينة سورية، تحت سيطرة السلطات الجديدة، سوف يقابل مزاجاً عاماً يميل نحو شيء واحد، الاستقرار، وليس دافع هذا لا حباً بنظامٍ جديد ولا كرها بآخر، بل خوفاً من أن تنزلق البلاد مجدداً إلى هاوية جديدة لن يخرج منها أحد سالماً.
يمكن القول: إن معظم السوريين في الداخل، المعارضين للأسد بمختلف أطيافهم، تحوّلوا إلى مدرسة سياسية واقعية، يقيسون المواقف بالنتائج، ويفضّلون تسوية غير كاملة على حربٍ كاملة، ويقبلون بحكمٍ لا يؤيدونه إذا كان البديل هو انفلات السلاح وانتقام الجماعات وهشاشة الدولة.
لقد اختبروا كل الاحتمالات القاتمة طوال سنوات، وخرجوا بقناعةٍ بسيطة “أي استقرار يحفظ كرامة وأمن السوريين أفضل من استعادة الفوضى”.
سيقول البعض إن هذا ليس موقفاً سياسياً بقدر ما هو قناعة وجودية، طبعاً لا أقصد هنا المعنى الفلسفي للوجودية، نعم هذا صحيح، فهم يرون أن المواطن، في هذه المرحلة على الأقل، يريد الكهرباء، والوظيفة، ومدرسة قريبة لأبنائه، وشارعاً آمناً، وهو لا يملك رفاهية الانخراط في سجالات نظرية حول “شرعية الشرع” أو “البديل المثالي” كما يراه كلٌّ من وجهة نظره.
هل أدعو للتواطؤ مع واقع محمول على توقعات بعضها قد يكون كارثياً، فيما لو استمرت السلطات بالإقصاء والاستئثار؟ بالطبع لا، فالعمل السياسي المعارض حقٌّ لا يجب التنازل عنه، لكن جلّ ما أحاول إيصاله هو الواقع كما عايشته مع أصدقاء على الأرض، وكي أصل إلى نتيجة هامة سياسياً حسبما أرى، وهو أن القراءة الواقعية الصحيحة هي التي توصل إلى الاتجاه الصحيح سياسياً، وسيّان هنا إن كنت موالياً أو معارضاً.
في المقابل، يبدو جزءٌ واسع من السوريين في الخارج وكأنهم يعيشون داخل فقاعة خطابية، لا يقلّ انغلاقها عن الفقاعات الإيديولوجية التي عرفها السوريون طوال نصف قرن، فالموالي الجديد الفرح بما يجده “نصر” شخصي، يريد تفصيل سوريا على مقاسه، وغالباً على مقاس انتمائه، ما يعطي صورة مشوّهة عن مستقبل البلد فيما لو تحققت أمنياته.
والمعارض للحكم الجديد لا يكتفي بانتقاد الشرع وسياساته، وهذا حقٌّ لا شك، لكنّه يذهب إلى أقصى درجات الشيطنة، هناك من يصف الحكم الجديد بأنه نسخة ثانية من حكمٍ طائفي جديد سيمتلك قريباً جداً كامل مواصفات حكم الأسد، فيبدو بهذا الرأي كمن يعيش على حلمٍ معلّق وهو إسقاط الحكم الجديد، ولدى البعض، لا بأس من إسقاط الدولة نفسها، طبعاً لا أقصد هنا عموم معارضي الخارج، بل تياراً يرفع سقف الصراع إلى حدّ تجاهل كلفة الانهيار على المجتمع، وكأن الظروف الإقليمية والدولية، أو الخراب الذي عاشته سوريا، كلها مجرد تفاصيل قابلة للتجاوز.
هذا التشدد، من الجانبين، ليس مجرد موقف سياسي، إنه هروب نفسي، هروب من الاعتراف بأن المعادلة الدولية تغيّرت، وأن الداخل السوري لا يشبه المنفى، وأن القوى التي حسمت الصراع، إن كنّا معها أو ضدّها، لن تتراجع بسبب تغريدة ما طالبت بذلك، أو لأن ناشطاً صرخ في مؤتمرٍ ما.
بعد زياراتي لسوريا، بدا لي أن السوريين في الخارج يعيشون أحياناً وفق تاريخ يمكن وصفه بالمُجمَّد، توقّف هؤلاء عند لحظة إسقاط الأسد، بعضهم كما يبدو لي أنهم، على سبيل الطرافة، صحيح كانوا مع إسقاط الأسد لكن ليس إلى هذه الدرجة! بينما أهل الداخل اندفعوا بسرعة إلى ما بعدها، البحث عن التعافي والمطالبة بإعادة ترتيب المؤسسات، بمعنى أن الحوار يتركّز على الخلافات الواقعية والأولويات اليومية.
في الداخل يعاني الناس من إرهاقٍ جماعي، فيحتاجون بشدّة للأمان، ويرغبون بإلحاح في طيّ صفحة الدم، الاصطفاف هنا يقوم على سؤال بسيط، هل سيعيدنا هذا السياسي، موالياً أو معارضاً، إلى الفوضى أم سيُبقي البلد واقفاً؟ أما أهل الخارج فكثيرون يحملون ذاكرة صدماتهم وهزائمهم السياسية الشخصية، ويقيسون المشهد من خلال صراعهم مع الأسد لا من خلال مستقبل سوريا، فيطلبون الثأر أحياناً غير آبهين بالنجاة، وآخرون ما زالوا يعيشون الحالة الراهنة كموقف من الجهاد السلفي، دون أدنى التفاتة للتغيرات الدراماتيكية في الخطاب والسلوك. لذا يتحول كل موقف للجانبين إلى معركة ثأرية مع الماضي.
في سوريا، يبحث الناس عن الواقعيّ، حتى إن لم يكن مثاليّاً، جزء من مؤيدي الشرع ليسوا مؤيدين له بقدر ما هم مؤيدون لفكرة “الدولة”، طبعاً لا يعني ذلك أن الداخل كتلة واحدة متناغمة، لكنهم أقرب إلى الواقعية بحكم العيش على الأرض، وجزء من معارضيه يعارض أداءه السياسي لا وجوده في الحكم.
- تلفزيون سوريا



























