هنا يبرز السؤال الأساسيّ: كيف عادت روسيا إلى سوريا الجديدة؟ لماذا قبِل الجميع بعودتها، خصوصاً اللاعب الأميركيّ الممسك بخيوط اللعبة اليوم، وتسهيل وجودها ضابطَ إيقاع وشريكاً يمكن التعامل معه لا خصماً ينبغي إبعاده وطرفاً يصعب الاستغناء عن خدماته في مرحلة إعادة تشكيل المشهد؟
العامل الأساسيّ الذي ساعد موسكو على العودة إلى سوريا هو أنّها تصرّفت بسرعة مع لحظة سقوط النظام السابق، من دون أن تربط نفسها بإرثه السياسيّ أو بخياراته، على الرغم من توفير الحماية له عندها. سارعت للعمل على إعادة تعريف علاقتها مع دمشق بوصفها علاقة مع دولة تمرّ بمرحلة انتقاليّة، لا مع قوى عادتها لسنوات طويلة.
منحها هذا السلوك أفضليّة على أطراف أخرى تحاول فرض شروط سياسيّة على القيادة السوريّة الجديدة أو رهن التعاون بمسارات مسبقة. اختارت موسكو خطاباً واقعيّاً يركّز على حماية مصالحها الاستراتيجيّة من دون الدخول في سجالات الماضي والبقاء أمامها. من هنا أصبح التعاطي معها أسهل بالنسبة لدمشق، لأنّها بدت شريكاً مستعدّاً للتكيّف مع الواقع الجديد.
بعيداً عن المقاربات التي تُظهر روسيا وكأنّها جاءت إلى سوريا لتعيد نفوذاً ضائعاً، ما قامت به فعليّاً هو إعادة هندسة حضورها وفق شروط المرحلة التي تلت سقوط الأسد. أدركت أنّ المشهد تغيّر، وأنّ النظام الذي كانت تراهن عليه لم يعد موجوداً، وأنّ استمرار حضورها يتطلّب تبديل الأدوات والقراءات.
على صعيد عربيّ، الانفتاح العربيّ على دمشق بعد انتقال السلطة خلق بيئة تتقبّل دوراً روسيّاً منضبطاً يساعد في موازنة النفوذ العربيّ
فهمت موسكو أيضاً أنّ حضورها في سوريا ليس ملفّاً محليّاً فقط، بل ورقة تفاوضيّة ثمينة في إدارة علاقتها المتوتّرة مع الغرب وارتدادات حرب أوكرانيا. بذلك تصبح العودة إلى سوريا جزءاً من استراتيجية أوسع تتيح لروسيا تعزيز موقعها الدوليّ وتفادي العزلة الجيوسياسيّة.
التّطبيع التّدريجيّ
اختارت مسار “التطبيع التدريجيّ” مع دمشق الجديدة، وقدّمت نفسها قوّةً قادرةً على توفير “رافد خدمة” استقرار في بيئة مليئة بالفراغات والتنافس بين الفاعلين المحليّين والإقليميّين والدوليّين. هذا التموضع سمح لها باستثمار إرثها السابق من دون أن تظهر وكأنّها امتداد لمرحلة انتهت، بل لاعب يدخل من بوّابة الشرعيّة الجديدة، وهو ما منحها القبول الداخليّ الضروريّ للانطلاق نحو بناء شبكة علاقات مستحدَثة في البلاد.
فهمت موسكو مبكراً أنّ المشهد الإقليميّ والدوليّ لا يسمح بالعودة إلى سياسة المواجهة مع واشنطن. لذلك لم تسعَ في المرحلة الجديدة إلى مقاربة تقوم على التحدّي، بل على إدارة التباينات والتقاطعات. لا وجود اليوم لخارطة نفوذ متّفق عليها أو تفاهم غير معلن على تقاسم الأرض، لكنّ هناك إدارة مشتركة للخطوط الحمر تمنع الانفلات. فهمت موسكو ذلك واستثمرته لإعادة تثبيت وجودها من دون معارك سياسيّة إضافيّة، ومن دون الاصطدام بالاستراتيجية الأميركيّة الأوسع في المنطقة التي تُعتبر سوريا حلقة أساسيّة فيها.

أمّا تركيا فتعاملت مع عودة موسكو بوصفها عنصراً إضافيّاً في توازنات سوريا، لا تهديداً مباشراً لها. العلاقة بين البلدين قائمة على مصالح متشابكة تسمح بإدارة الخلافات عمليّاً، ووجود روسيا في المشهد يتيح لأنقرة هامش احتواءٍ وتخفيفٍ في لحظات التوتّر من دون أن يشكّل اصطفافاً على حساب العلاقات التركيّة الروسيّة .
أمّا إسرائيل فتبقى لاعباً مؤثّراً، وتتعامل مع روسيا على أنّها طرف قادر على الحدّ من اقتراب قوى غير مرغوبة من حدودها الجنوبيّة، وتستفيد من القنوات الروسيّة في أوقات التوتّر.
فهمت موسكو مبكراً أنّ المشهد الإقليميّ والدوليّ لا يسمح بالعودة إلى سياسة المواجهة مع واشنطن
على صعيد عربيّ، الانفتاح العربيّ على دمشق بعد انتقال السلطة خلق بيئة تتقبّل دوراً روسيّاً منضبطاً يساعد في موازنة النفوذ العربيّ مع العديد من القوى الاقليميّة الفاعلة. منح موسكو هامش حركة أكبر، بحسب العديد من العواصم العربيّة، يضيف إلى المشهد السوريّ عنصر استقرار جديد.
على مستوى الداخل السوريّ، قبِلت دمشق بعودة روسيا لأنّها توفّر عنصراً مهمّاً في مرحلة حسّاسة: التوازن. لا تريد قيادة الشرع عند بناء الدولة من جديد علاقة تبعيّة مع أيّ طرف، ولا ترغب في صدامات مع القوى الفاعلة، لكنّها تحتاج إلى شريك خارجيّ يمتلك قدرة التواصل مع الجميع، ويستطيع تخفيف الضغوط الدوليّة والإقليميّة، ويوفّر دعماً سياسيّاً واقتصاديّاً في ملفّات تحتاج إلى خبرات وإمكانات لا تتوافر داخليّاً بعد سنوات الصراع.
عناصر استقرار روسيّة
تقدّم موسكو ما يكفي من عناصر الاستقرار، أمنيّاً وسياسيّاً واقتصاديّاً، من دون أن تطلب أثماناً مسبقة أو تغييرات بنيويّة تكون شرطاً للتعاون، وهو ما جعل العلاقة الجديدة معها خياراً عقلانيّاً وليس اصطفافاً سياسيّاً صارماً.
على المستوى الميدانيّ، اكتفت موسكو بتحرّكات عسكريّة محدودة لإعادة تقويم انتشارها السابق، في خطوة تثبّت وجوداً منخفض الكلفة من دون صدام مع واشنطن أو تل أبيب. اقتصاديّاً، تكتفي موسكو بتموضع مرن يمنحها حضوراً في مشاريع الطاقة والموانئ، إدراكاً منها أنّ هذه الملفّات متعدّدة اللاعبين وليست مجالاً حصريّاً لها.
على مستوى الداخل السوريّ، قبِلت دمشق بعودة روسيا لأنّها توفّر عنصراً مهمّاً في مرحلة حسّاسة
أعادت هذه الديناميّة روسيا إلى المشهد السوريّ بصورة مختلفة عن الماضي. لم تعُد قوّة متحالفة مع نظام، ولا قوّة مهيمنة على قرار سياسيّ، بل طرف يتحرّك ضمن شبكة حسابات دقيقة تجمع بين واشنطن وأنقرة وتل أبيب والرياض ودمشق في آن واحد، فكان لها ما تريد: عودة محسوبة، مرنة، ومتقنة في لحظة لا يملك فيها أحد ترف إقصاء أيّ طرف قادر على ضبط الإيقاع في بلد لا يزال يبحث عن توازناته.
يقول أحد الدبلوماسيّين المخضرمين إنّ سوريا هي المكان الوحيد الذي لا ينتصر فيه أحد تماماً، ولا يخسر فيه أحد بالكامل. ربّما في هذا التعريف المكثّف ما يشرح حكمة جورج كليمنصو حين قال إنّ النصر الحقيقيّ ليس في الحرب نفسها، بل في كيفيّة استخدامها بعد انتهائها.
فهمت روسيا هذه القاعدة جيّداً. لم تعُد إلى سوريا بوصفها قوّةً تبحث عن انتصار مؤجّل، ولا خاسرةً تحاول استعادة ما بقي من نفوذ سابق، بل طرف يدرك أنّ إدارة التوازنات أصعب من خوض الصراعات، وأنّ ضبط الإيقاع أهمّ من رفع الصوت فوقه.
- أساس ميديا



























