كشفت الأحداث التي تتالت بعد عملية «طوفان الأقصى» في 7 تشرين أول/ أكتوبر 2023، بشكل واضح، أن الخيار الوحيد الذي تقدّمه إسرائيل للفلسطينيين هو اقتلاعهم من أرضهم عبر التطهير العرقي والإبادة، وأن هذه المنظومة التي لا تشبه دولة استعمار واستيطان أخرى سبقتها ليس لديها مشروع لدمجهم «حتى كمجموعة مقموعة مضطهدة».
لا يستطيع الفلسطينيون في مواجهة خصم إقصائي إبادي، كما تخلص دراسة طويلة للأكاديمي القانوني والأنثروبولوجي الأمريكي داريل لي، أن يشقوا طريقهم للخروج من الاستعصاء بالتصويت والاحتجاج والاضطرابات، ولا حتى بالقتال، لكن كفاحهم أثبت على الأقل قدرتهم على تهديد الاستقرار الإقليمي والدولي، وأجبر الدول على الاستجابة، من خلال المحافل الدولية.
ولو أن الفلسطينيين، كما يقول المؤرخ العراقي عبد العزيز التكريتي، «لم يطوروا قدرتهم العسكرية الخاصة المستقلة لكانت قضيتهم للتحرر قد محيت منذ زمن بعيد، ولما حققت حقوقهم غير القابلة للتصرف أي اعتراف دولي».
صعّد الفلسطينيون حراكهم الجماهيري المسلّح في سبعينيات القرن الماضي مما جعلها قضية عالمية، وأعادت عملية «طوفان الأقصى» بعد خمسين عاما هذا الاهتمام العالمي مثيرة حربا إقليمية شملت آثارها الكبيرة لبنان واليمن وسوريا وإيران والعراق، كما هزت استقرار الأردن ومصر.
أدّت الديناميات التي أطلقها «الطوفان» إلى خلخلة التوازنات العسكرية ـ الأمنية في سوريا ولبنان مما فتح الباب أمام تغيّر سياسي هائل، بعد أن قامت فصائل المعارضة السورية، بدفع من أقواها، «هيئة تحرير الشام»، إلى فتح معركة «ردع العدوان»، التي مرّت أمس الخميس، الذكرى الأولى لها.
عكس الاسم المتواضع للعملية الأهداف التكتيكية التي كانت تتوقعها فصائل المعارضة، وبدت تلك العملية نقيضا غريبا لحالة التسليم والإحباط التي تملكت السوريين الآملين بانتهاء «نظام الأبد» الأسدي الذي تعامل مع شعبه بمنطق الإبادة عبر الأسلحة الكيميائية والصواريخ والبراميل المتفجرة، وزرعها بالمقابر الجماعية، وكبّلها سياسيا، وعوّقها اقتصاديا، واجتماعيا.
كان حلفاء نظام الأسد وأعداؤه يراقبون النجاحات السياسية التي يحققها ضمن المنظومة العربية، التي أعادت عضويته في جامعة الدول العربية، وتم استقبال زعيمه في قمتين عربيتين، كما كان واضحا أن بعض الدول الغربية بدأت بالاقتناع ببقائه واستأنفت التواصل معه، بل إن الرئيس التركي رجب طيب اردوغان، الذي كانت بلاده المقرّ الأبرز للمعارضة السورية، عرض اللقاء عليه أيضا، فرفضه.
قدّم «طوفان الأقصى»، بهذا المعنى، أطروحة الفلسطينيين لتحريك فاعلية قوانين العالم ضد الطبيعة الإبادية لإسرائيل، كما فتح الباب للسوريين لتقديم أطروحتهم للخروج من الاستعصاء الأبدي لنظام العائلة الأسدية.
بعد عملية «حماس»، كرّست أعلى محكمة في منظومة الأمم المتحدة، «العدل الدولية» أكثر من ثلث جلساتها لفلسطين، وقبلت دعوى الإبادة الجماعية التي قدمتها جنوب افريقيا، ثم أمرت المحكمة بإنهاء احتلال إسرائيل للقدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة، وهو أول حكم يصدر عن محكمة دولية يصف إسرائيل بالفصل العنصري، وأول حكم يأمر بانسحاب إسرائيل كامل من الأراضي الفلسطينية 1967 من دون اشتراط تسوية، كما أدى، لاحقا، إلى قرار بصياغة أمريكية في مجلس الأمن يلحظ مشروع الدولة الفلسطينية.
يكشف «ردع العدوان»، ببساطة، الارتباط الوثيق للتاريخ السوري الحديث، بالحدث الفلسطيني، ومن ذلك أن أول انقلاب عسكري (30 آذار/مارس 1949) جرى بعد شهور من حرب الإنقاذ التي شارك فيها الجيش السوري في فلسطين (كانون ثاني/ يناير 1948) وانقض حافظ الأسد على السلطة بعد هزيمة سوريا أمام إسرائيل عام 1967، وجاءت مجزرة حماة السورية في شباط/ فبراير 1982، قبل أشهر من مجزرة صبرا وشاتيلا الفلسطينية في أيلول/ سبتمبر 1982 الخ.
إضافة إلى جدل التاريخ السوري ـ الفلسطيني الجليّ هذا، فإن تأدية «الطوفان» إلى «ردع العدوان»، تكشف وجود منطق داخليّ لا يمكن اكتناه كل أسراره، حيث تتشابك الإرادة الإنسانية، مع الجرأة على قرار يبدو مستحيلا، والاندفاع ثم البناء على التطوّرات وصولا إلى النهاية غير المتوقعة التي تغيّر توازنات المنطقة، وتبدأ حقبة جديدة.
- القدس العربي





















