“في أيّ عصرٍ نعيش اليوم؟”، يتساءل الكاتب والمحلّل السياسيّ الأميركيّ توماس فريدمان، محاولاً تفسير التحوّل التاريخيّ السريع الذي يشهده العالم اليوم، معتبراً “أنّنا نعيش عصرَ التعدّد، عصرَ “التعدد في كل المجالات”، حيث تتشابك القوى، وتتقاطع المصالح، وتذوب الحدود بين الحقيقة والوهم، وبين الإنسان والآلة، وبين المحلّيّ والعالميّ”.
بعد الحرب الباردة والعصر الأميركيّ الأحاديّ الذي تلاها، انتهى ذلك النظام القديم مع الانسحاب الأميركي من أفغانستان، وغزو روسيا لأوكرانيا، وصعود الصين كمنافسٍ عالميٍّ اقتصاديٍّ وعسكريٍّ حقيقيٍّ موازٍ للولايات المتّحدة. يرى فريدمان أنّنا ندخل مرحلةً جديدةً لا تشبه أيّ مرحلة سابقةٍ، عالماً متعدّدَ الأقطاب، ومعقّداً، ومترابطاً على مستوياتٍ غير مسبوقةٍ.
ما نعيشه الآن لا يمكن تسميته “ما بعد ما بعد الحرب الباردة”. يكتب فريدمان في مقالٍ مطوّلٍ له في صحيفة “نيويورك تايمز”: تغيّر العالم جذريّاً وبسرعةٍ، ووصلنا إلى لحظةٍ تتجاوز بكثيرٍ عواقب تنافسٍ ثنائيّ القطب بين القوى العظمى.
“إنّها ولادةُ شيءٍ جديدٍ ومعقّدٍ للغاية، علينا جميعاً التكيّف معه، وبسرعةٍ”، يضيف فريدمان. مستعرضاً عدداً من التسميات التي اقترحها العلماء والمفكّرون لعصرنا:
“البوليسين“ The Polycene
يسمّيه العلماء عصر الأنثروبوسين (Anthropocene)، أي الحقبة التي بات فيها الإنسان هو القوّة المهيمنة على المناخ، بينما يسمّيه خبراء التكنولوجيا عصر الذكاء الاصطناعي، ويُفضّل بعض الاستراتيجيّين تسميته “عودة الجغرافيا السياسيّة”.
لكنّ فريدمان يرى أنّ أيّاً من هذه التسميات لا تُجسّد الاندماج الكامل بين تغيّر المناخ المتسارع والتحوّلات السريعة في التكنولوجيا وعلم الأحياء والإدراك والاتّصال وعلوم الموادّ والجغرافيا السياسيّة والجغرافيا الاقتصاديّة. يقترح مصطلحاً جديداً صاغه الباحث والخبير التكنولوجيّ كريغ مَندي، وهو عصر “البوليسين”، أي التعدّد في كلّ شيءٍ. يوضّح أنّ المصطلح مشتقّ من كلمة “بولي” اليونانيّة التي تعني “العديد”. العالم اليوم لم يعد ثنائيّاً بين شرق وغرب، يسار ويمين، غنيّ وفقير، بل صار متعدّدَ الأبعاد.
يرى فريدمان أنّنا نعيش اليوم مع نوعٍ جديدٍ من “العقول” لا يضمّ العقل البشريّ فقط، بل العقول الاصطناعيّة
إنّه عصر “التعدّد” بكلّ معنى الكلمة، بحسب فريدمان:
– تعدّد القوى (دول، شركات، أفراد، خوارزميّات).
– تعدّد الأزمات.
– تعدّد الهويّات.
– تعدّد مسارات المستقبل.
يرى فريدمان أنّ جوهر التحوّل يكمن في الثورة المعرفيّة، ثورة الذكاء الاصطناعيّ المتعدّد المواهب، الذي يتعلّم ويُبدع، والذي لم يكن ممكناً لولا تطوّر الرقاقات الدقيقة من أنظمةٍ ثنائيّةٍ إلى أنظمةٍ متعدّدةِ المهامّ المتوازيةٍ، قادرةٍ على معالجة ملايين العمليّات في وقتٍ واحدٍ. هذه الثورة هي الأساس الذي يُبنى عليه “عصر البوليسين”، الذي يسود فيه عالم مترابط تحكمه شبكاتٌ من ذكاءاتٍ متعدّدةٍ تتطوّر معاً ويتعلّم بعضها من بعض.
يشير فريدمان إلى أنّ مصطلح “الأزمات المتعدّدة” أصبح سائداً:
– الأزمات البيئيّة والسياسيّة والاقتصاديّة لم تعد منفصلةً بل مترابطة.
– أزمةٌ واحدةٌ، مثل جائحة كورونا أو حرب أوكرانيا، يمكن أن تولّد سلسلةً من الأزمات المتداخلة عالميّاً.
– تغيّر المناخ لم يعد مسألةَ “ارتفاع الحرارة فقط”، بل أصبح محرّكاً لأزماتِ الغذاء والهجرة والاقتصاد والصراعات.
سوريا نموذجاً لتشابك “البوليسين”
يضرب فريدمان مثالاً على عصر “البوليسين” الحرب في سوريا، التي تحوّلت إلى نموذجٍ فريدٍ من تداخل القوى والأجندات والمصالح.
في ساحةٍ صغيرةٍ نسبيّاً، تتقاطع جيوشٌ دوليّةٌ وإقليميّةٌ ومحليّةٌ، ومصالح اقتصاديّةٌ متضاربة، وتحالفاتٌ متبدّلة، وحروبٌ بالوكالة، وتكنولوجيا مراقبةٍ متطوّرة، ومنصّاتُ إعلامٍ ودعايةٍ رقميّة تؤثّر في الرأي العامّ العالميّ لحظةً بلحظةٍ.
لم يعد الصراع مواجهةً بين نظامٍ ومعارضةٍ، أو بين محورين إقليميَّين وحسب، بل صار ميداناً تتفاعل فيه عشراتُ القوى: دولٌ كبرى كروسيا والولايات المتّحدة، ودولٌ إقليميّةٌ مثل تركيا وإيران، وميليشياتٌ محلّيّة، وشركاتُ أمنٍ خاصّة، وجماعاتٌ عابرةٌ للحدود، ومنظّماتٌ إنسانيّةٌ وحقوقيّةٌ، إلى جانب الإعلام التقليديّ والجديد، وحتّى الخوارزميّات التي تتحكّم في انتشار الروايات على الإنترنت.
يضرب فريدمان مثالاً على عصر “البوليسين” الحرب في سوريا، التي تحوّلت إلى نموذجٍ فريدٍ من تداخل القوى والأجندات والمصالح
هذا التداخل الكثيف هو ما يجعل من سوريا مختبراً حقيقيّاً لفهم “البوليسين”: لا يمكن لأيّ قوّةٍ أن تفرض سيطرةً كاملةً، ولا لأيّ طرفٍ أن ينعزل عن الآخر. الكلّ مرتبطٌ بالكلّ، في شبكةٍ من المصالح والمخاوف والتكنولوجيا والمعلومات.
عصر الذّكاءات المتعدّدة
في هذا الإطار، يرى فريدمان أنّنا نعيش اليوم مع نوعٍ جديدٍ من “العقول” لا يضمّ العقل البشريّ فقط، بل العقول الاصطناعيّة التي تصمَّم وتُدرَّب وتعمل جنباً إلى جنبٍ مع البشر. لم يعد الذكاء الاصطناعيّ أداةً، بل شريك في التفكير والإبداع واتّخاذ القرار.
هنا يصبح السؤال: من يتحكّم بمن؟ وهل يستطيع الإنسان ضبطَ هذا التعدّد العقليّ والتكنولوجيّ الذي خلقه بنفسه؟
يذكّر فريدمان بعبارةٍ شهيرةٍ للفيزيائيّ ستيفن هاوكينغ: “أخطر ما في الذكاء الاصطناعيّ هو أنّه قد يتعلّم بسرعةٍ تفوق قدرة الإنسان على فهمه”.
في “عصر البوليسين”، تتضاعف هذه الخطورة لأنّ الذكاءات المختلفة، بشريّةً واصطناعيّةً، تتفاعل في بيئةٍ غير مستقرّةٍ مليئةٍ بالأزمات، من المناخ إلى الاقتصاد إلى السياسة.
القيادة في زمنٍ بلا يقينٍ
يختم فريدمان مقالَه بالتأكيد أنّ التحدّي الأكبر في عصر “البوليسين” هو القيادة: كيف يمكن لقادة الدول، أو الشركات، أو المجتمعات، أن يتّخذوا قراراتٍ رشيدةً في عالمٍ لا يمكن التنبّؤ به، حيث تتفاعل المتغيّرات بسرعةٍ تفوق قدرة أيّ مؤسّسةٍ أو نظامٍ تقليديٍّ على الاستيعاب؟
يقول: “في هذا العصر الجديد، لم يعد الاستقرار خياراً، بل أصبح التكيّف هو الاستقرار”. من لا يتكيّف بسرعةٍ مع هذا الواقع المتعدّد والمتغيّر، سيُستبدل عاجلاً أم آجلاً.
يضيف: “نحن لا نعيش مرحلةَ انتقالٍ نحو نظامٍ جديدٍ، بل نعيش النظامَ الجديدَ نفسه، عصرَ التعدّد، عصرَ البوليسين، الذي تتشابك فيه القوى وتتقاطع المصالح وتذوب الحدود بين الحقيقة والوهم، وبين الإنسان والآلة، وبين المحلّيّ والعالميّ”.
- أساس ميديا



























