
حازم صاغية
مهمةً صعبة، وقد تكون مُكلفة سياسيّاً، هي التوفيق والموازنة بين نقد الدولة ونقد المجتمع، أو بين مناهضة النزعة الدولتيّة من دون إضعاف الدولة، ومناهضة النزعات الشعبويّة من دون الانعزال عن الشعب وعن التيّار العريض للحياة السياسيّة.
ألقيت هذه الكلمة في “المنتدى الإقليميّ الثامن والعشرين لحركة حقوق الإنسان” الذي أقامته في باريس “منظّمة القاهرة لدراسات حقوق الإنسان”.
تطرح الليبراليّة، وسائر المدارس الفكريّة الحديثة ذات المنشأ الأوروبيّ، أسئلة صعبة على معظم المجتمعات غير الأوروبيّة، بما فيها العربيّة.
والحال أنّ عدم الانتباه إلى مشكلات الاستزراع والتبيئة كثيراً ما يوقع الليبراليّين، كما أوقع قبلهم القوميّين والماركسيّين، في شيء من التبسيط والاستسهال.
فباستثناء مصر والمغرب، ربّما كانت البلدان العربيّة تفتقر إلى إجماعات تأسيسيّة في صدد الوطن والدولة والشعب، حيث الغالب الأعمّ هو الانتماء إلى ما قبل الدولة، وإلى ما دونها. وقد ساد التوهّمُ، واعياً أو غير واعٍ، أنّ ما يحقّق التغلّب على هذا الضعف التكوينيّ تعريفُ الوطنيّة بالعداوة للمستعمِر والإمبرياليّ والأجنبيّ، فكان لهذا النهج الضدّيّ أن فاقم الضعف المذكور المقيم في الوطنيّة، وأضاف سبباً آخر إلى أسباب الصراع على الهويّة ومعناها.
وهذه وجهة استكملها صعود الحركات الإسلاميّة الذي شكّل ضربة غير مسبوقة للوحدات الوطنيّة، بما فيها أقواها، أي الوحدة الوطنيّة المصريّة. فما بين دخول العنف إلى الحياة العامّة وتوسيع رقعة التدخّل في الحياة الخاصّة، تحوّلت القواسم المشتركة داخل الجماعة الوطنيّة الواحدة إلى مفاهيم افتراضيّة يصعب رفدها بالعاطفة، كما يصعب تقديم البراهين العمليّة عليها.
وهكذا أُمعِن في إنقاص الإجماعات وتقليصها، وهي على العموم قليلة، مثلما أُمعن في توسيع المسافة بين جماعة وأخرى داخل الأوطان الإسميّة.
ونعرف، في المقابل، إذا وافقنا على أنّ جون لوك أب الليبراليّة، أنّ ولادة تلك الظاهرة في الغرب إنّما جاءت في سياق الإنشاء لإجماعاتٍ حالت دونها الحرب الأهليّة أو دمّرتها. فجون لوك إيّاه أحد آباء التسامح من خلال “رسالته” الشهيرة.
لهذا يجوز لنا القول، وبشديد الأسف، إنّ الليبراليّة، في مجتمعاتنا، ليست على جدول أعمال تاريخنا. فهي، عندنا، أقرب إلى مزاج وحساسيّة فكريّين ونفسيّين، الشيء الذي يصحّ أيضاً في القوميّة والاشتراكيّة وباقي سِلَع الحداثة الغربيّة.
فالمسألة المطروحة على غالبيّة مجتمعاتنا الساحقة هي تكوين الوطن والدولة نفسيهما، وبناء إجماعات وأساطير مؤسِّسة تخدم ذاك التكوين. فإذا برهنت التجارب استحالة ذلك باتت مهمّة المهمّات إعادة النظر بأشكال التعاقد القائمة في بلدان لم يُتح لها السموّ إلى سويّة الدول – الأمم.
وإذا صحّ أنّ أيّاً من مهمّتي التوحيد والتقسيم قابلة للإنجاز بأفق ليبراليّ، كما بأفق استبداديّ، ديكتاتوريّ أو شبه توتاليتاريّ، بقي أنّ الأساس هو التوحيد أو التقسيم وليس الأفق السياسيّ – الإيديولوجيّ الذي يحفّ بإنجازهما.
وثمّة مسألة أخرى تنجرّ عن المسألة الأولى. ذاك أنّ الليبرالية حدٌّ للدولة، أو حدٌّ عليها، يمليهما توسيع رقعة الحرّيّة. وهذا، في آخر المطاف، تعريف الليبراليّة الأصليّ والأهمّ. بيد أنّ الدولة، في الكثير من مجتمعاتنا الفاقدة لها، موضوع للطلب، إن لم تكن موضوعاً للرغبة. وبطبيعة الحال، ليس المقصود هنا بالدولة أدوات القمع والسلطة، وإن كانت هذه جزءاً لا يتجزّأ من كلّ دولة. فالمقصود، في المحلّ الأوّل، ذاك الطرف الذي يطبّق القانون، ويحمي المواطنين في حياتهم وأملاكهم، كما يكون مصدر تحكيم بينهم يحول دون تغوّل أقويائهم، السياسيّين والاقتصاديّين، على ضعفائهم.
ففي مجتمعاتنا، لا تقتصر النزعة التدخّليّة التي تحدّ من الحرّيّة على الدولة. وفي البلدان الكثيرة حيث تعاني الدولة الضعفَ والتصدّع، كما في بلدي لبنان والبلدان الأخرى التي تعصف بها الحروب الداخليّة، يلعب المجتمع الأهليّ هذا الدور بكفاءة أعلى. فليس من المبالغة القول، في ما خصّ الحرّيات الفرديّة والثقافيّة والدينيّة والجندريّة، إنّ الدولة أشدّ بكثير رحمةً وتسامحاً من القوى النضاليّة المتعصّبة في المجتمعات العصبيّة. ولا يغيّر تلك المعادلةَ أنّ جهاز الدولة قد يتواطأ، هنا أو هناك، مع شطر من المجتمع الأهليّ أو يُحمل على الالتحاق به.
وهذا إنّما يطرح على ذوي المزاج والحساسيّة الليبراليّين
مهمةً صعبة، وقد تكون مُكلفة سياسيّاً، هي التوفيق والموازنة بين نقد الدولة ونقد المجتمع، أو بين مناهضة النزعة الدولتيّة من دون إضعاف الدولة، ومناهضة النزعات الشعبويّة من دون الانعزال عن الشعب وعن التيّار العريض للحياة السياسيّة.
كذلك تواجه الليبراليّين العربَ مسألةُ الأولويّة، أو السؤال المُحفِّز، في تحديد مزاجهم وحساسيّتهم: فهل يعود ذلك إلى الاعتبار الجيوبوليتيكيّ الذي يقدّم على ما عداه التصدّي لأنظمة توتاليتاريّة قويّة ومهدّدة للحرّيّة، كروسيا السوفياتيّة بالأمس وإيران الخمينيّة اليوم، والدفاع تالياً عن سياسات الدول الغربيّة الديمقراطيّة والليبراليّة ومصالحها، على ما كانت الحال مع ليبراليّين كبار كريمون أرون وإيزايا برلين، أم تعود الأولويّة إلى القيم، كمناهضة أنظمة قمعيّة وخرافات مجتمعيّة، والدفاع عن إحداث تغييرات تقدّميّة في أوضاع النساء، وعن درجة أعلى من العدالة الاجتماعيّة، وهو ما يصحّ في الليبراليّة اليساريّة الأميركيّة وإلى حدّ ما في هنه أرنت؟
صحيح أنّ كلاً من المدرستين تتّصل بالأخرى في نهاية المطاف، إذ المدرسة الأولى من الليبراليّين قد ترى في إزاحة تلك الأنظمة طريقاً إلى الانتصار للقيم الأخرى، فيما المدرسة الثانية قد ترى في معركة القيم مقدّمةً لإرساء أنظمة بديلة. بيد أنّ تحديد موضع التركيز يبقى أساسيّاً، لا سيّما خلال العمليّات السياسيّة الجارية في حياتنا اليوميّة. ذاك أنّ الجيوبوليتيكيّين قد يتعايشون مع أفكار كالنيو ليبراليّة الاقتصاديّة، أو مع أنظمة ليس من شافع لها سوى موقعها من الاصطفافات الإقليميّة أو الدوليّة. وفي المقابل، فإنّ القِيَميّين قد تجرفهم نزعة قانونيّة وحقوقيّة تُضعف حساسيّتهم السياسيّة وتدفعهم إلى التسامح حيال حرّية أطرافٍ تهدّد الديمقراطيّة.
ويثير المزاج الليبراليّ مسألة أخرى هي جزء من مصادره أو بُنية تحتيّة من بُناه: هل عدوّ الليبراليّة العميق الأوّل هو الفاشيّة بوصفها نزعة دولتيّة مستفحلة، أم هو الشيوعيّة بوصفها، هي الأخرى، نزعة دولتيّة مستفحلة؟
وهنا أيضاً سيكون من المتاح دائماً اعتماد موقف سلبيّ حيال الاثنتين، وإن ظلّ سؤال الأولويّة، مرّة أخرى، مطروحاً. وفي ظنّي أنّ الشيوعيّة ومتفرّعاتها تتّسع للفرز بين ما هو تنويريّ فيها وما هو توتاليتاريّ، بينما لا يمكن التعامل مع الفاشيّة إلاّ ككلّ واحد تندمج فيه مناهضة التنوير والديمقراطيّة والثقافة.
ولمّا كانت الليبراليّة من أقلّ الإيديولوجيّات إيديولوجيّةً، ومن أقلّها تحفّظاً على الانتقائيّة، بات المزاج الليبراليّ مُطالَباً بتوسيع الاطّلاع على الإيديولوجيّات قليلة الإيديولوجيّة كالتجريبيّة والنفعيّة والبراغماتيّة، كما بابتكار صيغة تزاوج ما مع نظريّات العدالة الاجتماعيّة، لا سيّما منها الاشتراكيّة الديمقراطيّة. فهذه وتلك يسعها، فضلاً عن تحسين الموقع السياسيّ الإجماليّ، كشف التهافت واللاواقعيّة في النُظم الإيديولوجيّة المُحكَمَة التي لا تردعها تجارب الحياة المعاكسة، الكثيرة والمتراكمة، عن المضيّ في تفسير العالم والتاريخ.
لكنْ يبقى، في الأحوال كافّة، أنّ الخطر الأكبر على الليبراليّة اليوم تجسّده هذه الشعبويّة القوميّة التي يمثّل دونالد ترامب رمزها الأكبر، والتي تهدّد بضرب المثال الليبراليّ في مصدره وأصله الغربيّين نفسهما، ناهيك بتدميرها الأمزجة والحساسيّات الليبراليّة الضعيفة أصلاً خارج البلدان الصناعيّة المتقدّمة. والتعيين هذا إنّما يرتّب مهمّات فكريّة وعمليّة عدّة.
- درج


























