لا يمكن تبرئة ساحة السلطة الحالية في ما يخص الأحداث التي ما زالت سوريا تشهدها منذ الثّامن من كانون الأول/ديسمبر المنصرم، ولا سيما من خلال اتخاذ عدّة قراراتٍ خاطئة أسهمت غالباً في تفاقم مشكلاتٍ كانت قابلة للحل وتحوُّلِها إلى أزماتٍ مستعصية نتيجةً لتفاعل ديناميات الواقع المؤثّرة في تلك المشكلات واتخاذها منحىً تصاعدياً في مرحلةٍ تتسم بطبيعتها بالاضطراب الشديد وتشابك العوامل الداخلية والخارجية المحرّكة للواقع والتعقيد الكبير الذي يتسم به.
ولكن لا يجدر بنا أيضاً الاكتفاء بتحميلها المسؤولية على نحو ما يمكن أن ينطبق على سلطةٍ تتمتّع بالسيادة على كامل أراضيها وتحظى بمؤسساتٍ صلبة راسخة (كسلطة الأسد عشية اندلاع الثورة مثلاً) ليس دفاعاً عنها وإنما تلافياً لئلا يكون اتهامها (مع إهمال بقية العوامل) كافياً للحيلولة دون تجدّد مشكلاتٍ كهذه على نحوٍ أوسع نطاقاً في المستقبل، على غرار الأحداث التي شهدتها فرنسا غداة الثورة الفرنسية ما بين العامين 1793 و1796، والتي تطوّرت من عمليات قتل محدودةٍ متفرّقة لتصل إلى مذبحةٍ كبيرةٍ مروّعة على خلفية الهلع المنتشر في صفوف جمهور الحكومة الثورية (التي كانت تفتقر للسيادة على كامل أراضي دولتها في تلك الآونة) من عودة الجيش الملكي مدعوماً من الجيش النمساوي ولا سيما مع بروز زعماء محلّيين مارسوا دور السلطة الموازية في أقاليم تمتّعوا فيها بمستوىّ مرتفعٍ من النفوذ، ولا بدّ من التشديد في هذا الصدد على أن الخوف يلعب دوراً حاسماً في تحريك الأحداث وتحديد سلوك الجماهير في الحالات المماثلة، التي غالباً ما يكون الضحايا فيها من الأبرياء غير المرتبطين بصورةٍ مباشرة بأي طرفٍ من الأطراف المتنازعة، كما تجدر الإشارة إلى أن الخلفية الأيديولوجية المختلفة للسلطة وقناعاتها الراسخة بشأن العلمانية والديمقراطية وحقوق الإنسان لم تحل دون وقوع المذابح آنذاك، بما يؤكّد على الأهمية الأخلاقية التي تكتسيها المقاربة الصحيحة لتحديد المسؤوليات عن أحداثٍ كهذه.
«النقصان الفادح في السيادة وهشاشة المؤسسات والاقصاء يجعلها دولة منقوصة السيادة»
ولا يفيد الاستشهاد بالأحداث الدامية التي شهدتها محافظة السويداء في هذا السياق في تفنيد الحجة التي سقناها أعلاه على اعتبار أن المدينة كانت قد شقّت عصا الطاعة على سلطة الأسد، بما يفترض أن يضعها تلقائياً في صفّ السلطة الجديدة، ومع ذلك لم يشفع لها هذا ولم يجّنبها هذه الأحداث المؤسفة، لا بل هذا مما يؤكّد لنا على صحة هذا المذهب إذن، ولا سيما مع تشخيص حالة السويداء بناءً على أسس أكثر تعبيراً عن الواقع، فهي لم تمثّل نموذجاً لمعارضة سلطة الأسد بحدّ ذاتها بقدر ما تجسّد حالةً من مناوئة سلطة دمشق المركزيّة بصرف النظر عن تركيبة مجموع الحاكمين وهويتهم الأيديولوجية. ومردّ الأمر حقيقةً هو التهميش التاريخي الذي ما زالت المدينة تعيشه منذ ما قبل تشكّل الكيان السوري الحديث، في حين أن النخب السورية المتعاقبة قد أخفقت في إيجاد الحلّ لهذه المعضلة حتى اللحظة، وهي قد انفجرت في وجه الأسد غير مرّة، وسرعان ما انفجرت في وجه السلطة الجديدة، وستشهد المزيد من الانفجارات في المستقبل ما لم يتم التوصل إلى حلٍّ لها مرضٍ لجميع الأطراف المعنية، وعلى رأسهم أهل المدينة أنفسهم.
بناءً عليه، تحتّم علينا المسؤولية الأخلاقية ألا نكتفي بتوجيه أصابع الاتّهام إلى السّلطة (خلافاً لما يذهب إليه الكثيرون من الكتّاب الذين تتسم مواقفهم غالباً بالتقلّبات الرشيقة ما بين التأييد والمعارضة) بل ينبغي أيضاً توخّي الدّقة لدى تحديد ديناميات الواقع المذكورة والفهم الدقيق للعمليات الاجتماعية الجارية ضمن المجتمع السوري (اقرأ: الاستعدادات المسبقة لدى الجماعات السورية للتضافر والاندماج أو التنافر والتنافس والنزاع، وهي استعداداتٌ لا تنشأ بين ليلةٍ وضحاها) فإن كنّا نقرّ بأن اتخاذ القرارات الصحيحة من جانب السلطة والنّخب بصورةٍ عامة يسهم بشكلٍ كبير في وضع هذه العمليات على السكّة الصحيحة، إلا أننا نجانب الحقيقة أيضاً في حال غضضنا الطرف عن التأثير العميق الذي يمارسه عدم الإجابة على المسائل الوطنية الكبرى (ولا سيما مسألة الحداثة) منذ أن وجدت النخب السورية نفسها في مواجهتها للمرة الأولى منذ ما يزيد على قرنٍ ونصف القرن، الأمر الذي لا تتحمّل السلطة الحالية أي مسؤولية تجاهه بخلاف المسؤولية عن عدم إطلاق عمليةٍ سياسية جادّة لإيجاد الحلول ذات الصلة حتى اللّحظة، الأمر الذي يعود برأينا لأسبابٍ متعدّدة، من بينها على سبيل المثال لا الحصر قصور الوعي الذي يشكّل الخاصية الغالبة لدى مختلف النخب السوريّة، بمن في ذلك أفراد السلطة. ونُحيل إلى النخب (الاقتصادية والثقافية) في هذا السياق على اعتبار أن دورها (في حالة غياب السيادة الكاملة وضعف المؤسسات الصّلبة المذكورة أعلاه) سيكون أوسع من حيث التأثير على الرأي العام منه في حال تمتّع السّلطة بالسّيادة الكاملة (طبعاً في ظلّ غياب نظام حكم ديمقراطي يتيح بطبيعته للنخب ممارسة أدوارٍ مؤثرة دون شك).
ويتعذّر علينا في الحالة الأولى استخدام تعبير «الدّولة» نظراً للنقصان الفادح في السيادة وهشاشة المؤسسات أو لعلّه بمقدورنا القول دولة منقوصة السيادة في أفضل الأحوال.
بتعبيرٍ آخر، بدأت الاضطرابات في العام 2011 مع وجود سيادةٍ كاملة ومؤسسات صلبة متماسكة إلى حدٍّ بعيد، وقد أدّت القرارات الخاطئة التي اتخذتها السّلطة آنذاك إلى تآكلها التدريجي وانهيار معظمها في نهاية المطاف. وترافق هذا التآكل مع دخول عناصر جديدة على صعيد تحمّل المسؤولية عمّا جرى طيلة فترة الثورة، بدءاً بالنخبة السورية المناوئة لنظام الأسد، التي أصرت على التصرّف كمعارضة سياسية (على الرغم من غياب الحياة السياسية) بدلاً من التصدّي لمهمة قيادة الثورة، بما ينطوي ذلك على إرساء علاقة جدلية مع جماهير الثورة تقوم على أساس اتخاذ قراراتٍ قد تفتقر للشعبية أحياناً بدلاً من التصديق الأعمى على مطالب الجماهير في كلّ مرّة سعياً إلى تحقيق شعبية قد تلزم لاحقاً في أي عملية تنافس حزبي ما كان ليتحقق فعلاً حتى يومنا هذا.
تمعن النخب السورية في سحب تلك القراءة المقلوبة للواقع على الوضع الراهن، على الرغم من أنه يمضي في الاتجاه المعاكس، أي أنه بدأ مع غياب المؤسسات الصّلبة (أو هشاشتها كما في حالة الجيش الحالي بخلاف الجيش السابق الذي كان في أوج قوته عشية انطلاق الثورة) ونقصان السيادة كما أشرنا، وكما هو معلوم للجميع. وفي حين أنه قد يبدو للمراقب أن السلطة الحالية ما زالت تسعى إلى تجميع عناصر قوتها فوق الدولة أو على نحوٍ موازٍ لها في أفضل الأحوال، مما يضفي على الحالة شبهاً ظاهرياً بسلوك نظام الأسد طيلة فترة حكمه تقريباً، إلا أنه في حالة السلطة الحالية يعود إلى الخوف المذكورة أعلاه، معطوفاً على العجز عن فرض السيادة على كامل أراضي الدولة حتى اللحظة كما ذكرنا آنفاً أيضاً، وتتفاقم هاتان المشكلتان مع اتخاذ أي قرارٍ خاطئ من قبل السلطة بكلّ تأكيد، بيدَ أن الإحالة إلى أخطاء السلطة وحدها ليست كافيةً، وإلا سيشكّل هذا ضرباً من القصور في تحديد جميع الأسباب للمأزق الداخلي الكبير الذي نواجهه اليوم ولن يكون ذلك كفيلاً بإيجاد الحلول الناجعة له دون أدنى ريب، ولكنّ القرارات الصحيحة لا شكّ ستسهم في الوصول إلى المآلات المرجوّة، وينبغي أن تستند جميع هذه القرارات إلى التعلّم من تجارب الشعوب التي سبق لها أن أنجزت مهامّها الوطنية الكبرى واستخلاص الدروس منها، بما في ذلك الدرس الأهمّ وهو نبذ العنف وإطلاق ورعاية حوار مجتمعي تفاعلي (لا ينبغي أن يكون قصير المدّة) لإتاحة الفرصة للمجتمع لإفراز قادة رأيٍ جدد بوعيٍ أصيل متطور ومتفاعل مع الواقع كما هو (بخلاف الوعي القاصر أو الزائف لدى معظم النخب السورية الحالية كما أشرنا) وصولاً إلى التوافق على شكل نظام الحكم الأمثل والنموذج الاقتصادي الأصلح وغير ذلك من الأمور التي تؤدّي دوراً محورياً في استقرار البلاد وقدرتها على المضي قدماً، ولا سيما الاستغلال الأمثل من جانب السلطة لما يبدو أنه توافقٌ دوليٌّ على إرساء حدّ أدنى من الاستقرار في البلاد.
كاتب سوري
- القدس العربي


























