
مع اقتراب الذكرى الأولى لإسقاط نظام الأسد الإجرامي، لا يزال مطلب العدالة الانتقالية ومحاسبة المجرمين يتصدر النقاش العام بين السوريين، بوصفه الشرط الأساسي لبناء دولة قانون تحمي حاضرهم كما تعالج ماضيهم. غير أن هذا النقاش يكشف عن ميل خطير لحصر العدالة في الماضي وحده، كأن إسقاط النظام يكفي لتطهير البلاد من بقاياه وأذرعه التي ما زالت تعمل بدعم خارجي على تقويض الاستقرار ومنع قيام الدولة. هذا الفهم القاصر لا يصنع عدالة؛ بل يعيد إنتاج المأساة في سياقات جديدة ويترك المجتمع عرضة لفوضى أمنية قاتلة.
صحيح أن السلطة الجديدة بدأت بالفعل محاكمة بعض العناصر المتهمة بارتكاب مجازر الساحل، سواء من النظام السابق أو من المحسوبين على السلطة الحالية، غير أن هذه المحاكمات بالرغم من أهميتها، لا تقع في سياق العدالة الانتقالية؛ بل تجري ضمن إطار القانون السوري القاصر عن محاكمة مرتكبي الجرائم الخطيرة، لخلوه من النصوص التي تعاقب عليها على نحوٍ واضح. وهكذا تبقى هذه الإجراءات محدودة، لأنها لا تعالج الجذور العميقة للعنف ولا تضمن استقلال القضاء، في حين أنَّ العدالة الانتقالية هي مشروع شامل لإصلاح المؤسسات وكشف الحقيقة وضمان عدم تكرار الجرائم.
وعلى أهمية تلك المحاكمات، فإن الجرائم المتنقلة في مناطق ومدن عدة، خصوصاً في مدينة حمص، باتت تشكل خطراً حقيقياً ليس على أمن المجتمع؛ بل على الدولة والسلطة أيضاَ، هذه الجرائم يجب أن تتابع بجدية أكبر وملاحقة مرتكبيها وإحالتهم للقضاء. فالجرائم لم تنته بسقوط رأس نظام الأسد؛ بل ما زالت تتغذى على الفوضى التي تصاحب المراحل الانتقالية عادة، وتستفيد من ضعف مؤسسات الدولة وغياب الردع. كما إن الافلات من العقاب يمنح بقايا مجرمي النظام السابق، والمجرميين الحاليين الاستفادة من هذا الواقع المنفلت، بل وحتى التنسيق بينهما. والواقع السوري اليوم يثبت ذلك بوضوح، جرائم القتل والاعتداء لم تتراجع، بل تحولت إلى خبر يومي يزرع الخوف في حياة الناس.
خلال أقل من شهر، قُتل ما لا يقل عن خمسة عشر شخصاً في حوادث متفرقة، تؤكد أن الخطر ليس ماضياً بل حاضراً يومياً. ففي بلدة أم حارتين بريف حمص الغربي، هاجم مسلحون مقهى فقتلوا أربعة مدنيين وأصابوا اثنين آخرين. ومنذ أيام قليلة، شهدت دير عطية عملية سطو مسلح أسفرت عن مقتل أربعة مدنيين وجرح اثنين. وفي درعا، أطلق ملثمون النار على امرأة كانت متجهة إلى عملها وهو ما أدى إلى مقتلها على الفور. أما الجريمة الأشد وقعاً وخطراً، وقعت على طريق زيدل في مدينة حمص، حيث قُتل رجل وحرقت زوجته، وترك المجرمون عبارات طائفية بدم الضحايا على الجدران، في محاولة متعمدة وواضحة لإشعال الفتنة بين الأهالي. وهذا ما كشفه أول أمس الناطق باسم وزارة الداخلية نور الدين البابا، الذي أكد أن التحقيقات الأولية تشير إلى أن الجريمة ارتكبت بدوافع جنائية بحتة، وأما العبارات الطائفية التي دُوّنت في مكان الحادثة كانت تهدف إلى التمويه وإثارة الفتنة في مدينة حمص.
ليس من قبيل المصادفة أن تُترك عبارات طائفية بدم الضحايا في بعض جرائم حمص، فالمجرمون يدركون أن أخطر ما يمكن أن يهدد المجتمع السوري هو إشعال الفتنة بين مكوناته. إن استهداف حمص، بما لها من رمزية تاريخية وتنوع اجتماعي، يكشف عن محاولة منهجية لتفجير النسيج الوطني من الداخل. والتجربة العراقية القريبة خير شاهد على ذلك، فحين تُركت الجرائم الطائفية بلا محاسبة، تحولت إلى حرب أهلية مزقت البلاد وأعاقت وما زالت تعيق بناء دولة العراق. وتجاهل هذا الخطر في سوريا اليوم يعني تكرار المأساة نفسها، وهو ما يجعل العدالة الانتقالية ضرورة عاجلة لا تحتمل التأجيل.
إن جريمة قتل الزوجين على طريق زيدل شرقي حمص كشفت عن الخطر الكبير لاستمرار انتشار السلاح مع الناس فهو من جهة يتيح لأي جهة تريد خلق بلبلة أن تفعل ذلك بكتابة جملة أو جملتين تحمل طابعاً طائفياً أو قومياً. فلو كتب الجناة مثلاً عبارة “نحن جنود المسيح”، لكان البعض اندفع لمهاجمة أحياء مسيحية بريئة. ولو كتبوا “نحن الأكراد أصحاب حق”، لكانوا تهجموا على كل كردي سوري. والأمر نفسه يمكن أن يتكرر بحق الإسماعيليين أو الدروز أو التركمان وغيرهم. هذا يوضح أن انفلات السلاح يجعل المجتمع كله رهينة لمغامرات خطيرة، وأن أي محاولة لتفريغ الاحتقان عبر الاعتداء على الناس وممتلكاتهم، لا تزيد إلا في تعميق الشرخ الاجتماعي.
فالتراخي في ضبط السلاح وحصر حمله واستخدامه بالقوى المكلفة قانوناً يفتح الباب أمام كل جريمة جديدة، ويجعل المجتمع رهينة لمسلحين خارج أي إطار شرعي. صحيح أن سحب السلاح في هذه المرحلة الحرجة ليس مهمة سهلة، خصوصاً مع محاولات السلطة إعادة بناء أجهزة أمنية وشرطية قادرة على فرض النظام، لكن ذلك لا يعفي الدولة من مسؤوليتها في وضع ضوابط صارمة. وأول هذه الضوابط هو تشديد العقوبات على كل من يحمل سلاحاً من دون ترخيص قانوني، مع فرض غرامات مالية كبيرة تردع المخالفين وتحد من انتشار السلاح العشوائي.
ويبقى السؤال مفتوحاً أمام كل سوري: أي مستقبل نريد أن نصنعه لأنفسنا ولأبنائنا؟ الإجابة تبدأ من إصرارنا على العدالة، لكنها لا تنتهي عندها. فالإعلام أيضاً يتحمل مسؤولية كبيرة في هذه المرحلة؛ إذ عليه أن يكون أداة لتهدئة النفوس وكشف الحقائق، لا وسيلة لنشر رسائل التحريض التي يتركها المجرمون عمداً. إن نشر مضمون العبارات الطائفية قبل التأكد من الجهة الفاعلة لا يخدم الحقيقة؛ بل ينفذ عملياً ما أراده الجناة من جرائمهم في إشعال الفتنة وتوسيع دائرة العنف. لذلك فإن العدالة الانتقالية، إلى جانب ضبط السلاح، تحتاج إلى إعلام مسؤول يضع مصلحة المجتمع فوق الإثارة، ويشارك في بناء عهد جديد يقوم على الكرامة والحرية.
- المدن


























