شهد الأسبوع الفائت مجموعة تطورات وتصريحات وتسريبات، من الصعب تجاهل الرابط بينها، حتى لو لم يكن مباشراً أو مقصوداً، إلا أنه يرسم لوحة واضحة المعالم لتدافع قوى دولية وإقليمية على موطئ قدم مرتبط بخطوط الطاقة، المُنتظر مرورها عبر الساحل السوري. وفي لوحة التدافع هذه، تبدو روسيا في موضع الدفاع المرفق بالابتزاز، فيما تندفع الولايات المتحدة لقيادة حراك إقليمي، لو كُتب له النجاح، فإنه سيُحلّق بسوريا إلى مواضع متقدمة على خرائط إنتاج وتمرير الطاقة.
بدأت مجموعة التطورات تلك، بلقاء الرئيس السوري أحمد الشرع مع وفد شركة شيفرون الأميركية، بدمشق، قبل أيام، لبحث فرص التعاون في استكشاف النفط والغاز بالساحل السوري. والملفت، كان حضور ممثلين عن شركة “يو سي سي” القابضة القطرية، للاجتماع. فالشركة المذكورة، كانت قد قادت تحالفاً يضم شركات أميركية وتركية، في مذكرة تفاهم تاريخية وُقّعت في 29 أيار/مايو الفائت، بدمشق، لإنشاء عدد من محطات الكهرباء والطاقة الشمسية، بقيمة 7 مليارات دولار. وقد تم توقيع العقود التنفيذية لمذكرة التفاهم هذه، مطلع الشهر الفائت، وبدأت عمليات التنفيذ.
في اليوم التالي للقاء الشرع مع وفد شيفرون الأميركية، مرّ تصريح ملفت لنائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي فيرشينين، خلال لقاء إعلامي، قال فيه إن القواعد والوجود الروسي يلعبان دوراً مهماً في استقرار الوضع بسوريا. هذا التصريح سبق بيومين فقط، نشر تحقيق رويترز الذي تحدث عن مشروعَي التمرد المسلح في الساحل السوري، لكلٍ من كمال حسن، رئيس المخابرات العسكرية في النظام البائد، ورامي مخلوف، ابن خال بشار الأسد. ويعمل الرجلان من منفاهما في موسكو.
ووفق رويترز، تعلم السلطات الروسية بمشروعَي حسن ومخلوف، وقد التقت بصورة غير رسمية ومنفصلة، مع ممثلين عن الرجلين منذ بضعة أشهر. ورغم أن موسكو لم تتبنَ المشروعَين أو أحدهما، لكنها لم تعرقلهما أيضاً، بل على العكس، أرسلت رسالة تشجيع، حينما قال الروس لممثلي حسن ومخلوف: “نظموا أنفسكم ودعونا نرى خططكم”. وتذهب رواية “رويترز” إلى أن اهتمام موسكو بالمشروعَين تراجع مؤخراً، خصوصاً بعد زيارة الشرع للعاصمة الروسية، في تشرين الأول/أكتوبر الفائت. ورغم ذلك، نجد أن تحقيق رويترز تضمن معطيات وافرة الدقة مصدرها أشخاص يعملون داخل مشروعَي التمرد أو على إطلاع عليهما. ومن الملفت أن نشر هذه المعطيات جاء بالتوازي مع التحرك الأميركي نحو الثروة الباطنية للساحل السوري، وموقعه الاستراتيجي المحتمل كمنصة لتصدير الطاقة نحو أوروبا. وهما الثروة والموقع اللذان كانا تحت سطوة الروس، حتى سقوط نظام الأسد.
تزامن ما سبق مع قرار الاتحاد الأوروبي بالتوقف التدريجي عن استيراد الغاز الروسي بحلول أواخر 2027، مما يستدعي من الأوروبيين تكثيف سعيهم لتوفير البدائل. وتتقدم سوريا كمصدر وممر، قد يكون ذا جدوى مرتفعة. وهو ما تراهن عليه واشنطن، وفق ما يوحي به مؤشر آخر تمثّل في تصريح نائب الرئيس التنفيذي للشركة السورية للبترول، قبل أيام، بأن سوريا والعراق يعملان على تسريع خطوات إعادة تأهيل خط أنابيب كركوك – بانياس، بدعم أميركي وفي إطار جهود إقليمية ودولية أوسع لتعزيز ربط الطاقة بين البلدين.
وهكذا يصبح من الصعب تجاهل القراءة التي مفادها أن روسيا تبتز السلطات في دمشق. فموسكو لم تستضف قيادات النظام البائد، إلا كي يكونوا خطة باء، يمكن استخدامها في حال عدم التوصل إلى تسويات مقبولة مع القيادة السورية، حيال المصالح الروسية في سوريا. ووفق ما رشح بعيد زيارة الشرع لموسكو، قبل شهرين، فقد تم الاتفاق على بقاء القاعدتين الروسيتين في طرطوس وحميميم.
لكن التفاوض حول باقي الاتفاقات السابقة، لا يزال جارياً. وكما نعلم، فروسيا تملك اتفاقيات موقّعة مع النظام البائد، تمنحها حق التنقيب والاستكشاف في الساحل السوري. وهو “حق” أعاقت العقوبات الغربية تنفيذه، إلى جانب رغبة روسيا في تحييد ثروات الساحل وموقعه عن خرائط الطاقة وأنابيبها، خدمة لدعم تنافسية غازها المصدّر إلى الاتحاد الأوروبي. تحييد ما عاد من الممكن الاستمرار فيه. كما أنه ما عاد ذا معنى بعد الحرب الروسية- الأوكرانية، وقرار الأوروبيين التخلص من حاجتهم للغاز الروسي تدريجياً. لذا قد يكون المطلب الروسي هذه المرة، موطئ قدم في ثروات الساحل وموقعه المحتمل على خطوط أنابيب الطاقة، مقابل عدم المساهمة في تعكير صفو استقرار سوريا، عبر أدوات النظام البائد.
هذه الخلاصة قد تعني أننا أمام سيناريوهين: “حرب” أمنية لتحييد تأثير أدوات النظام البائد في الساحل السوري. وهي “حرب” تتطلب أعلى درجات الاحتراف، من دون التورط في انتهاكات شبيهة بما وقع في آذار/مارس الفائت. أو السيناريو البديل، بالوصول إلى تسويات مقبولة مع الروس، شريطة ألا يبقى التهديد المتمثل في منفيي نظام الأسد، متاحاً للابتزاز من حين لآخر، من جانب موسكو. ولا بد أن واشنطن ودولاً إقليمية وازنة بالمشهد السوري، تعمل بالفعل على تحقيق ذلك، بالتعاون الأمني والسياسي مع السلطات السورية. لكن يبقى أن التحدي الأمني لدمشق، سيبقى التحدي الأكبر في الفترة المقبلة.
- المدن


























