
لا أميلُ إلى الطعن في التقرير الذي نشرته وكالة رويترز الأسبوع الماضي، وادّعت فيه أنّ بعض كبار ضبّاط النظام السابق وأعوانه يحضّرون لتمرّد كبير في منطقة الساحل (سمّت تحديداَ ابن خال بشّار الأسد، رامي مخلوف، ورئيس المخابرات العسكرية السابق، كمال حسن، من بين آخرين)، فقد تكون أحلام العودة لا تزال تُراود بعض الواهمين من رموز النظام السابق، أقلّه في إقليم ساحلي مُنفصل عن دمشق. اعتراضي الرئيس على التقرير أنّ فيه شيئاً من المُبالغة في تقدير الخطر الذي يشكّله هؤلاء، لكن الأهم محاولة زجّ العلويين، مجتمعاً وطائفة، في خضمّ هذه الادّعاءات، خصوصاً بعد التظاهرات التي دعا إليها رئيس ما يسمّى المجلس الإسلامي العلوي في سوريا والمهجر، غزال غزال، ولقيت تجاوباً نسبيّاً في بعض مناطق العلويين في الساحل وغرب البلاد، بعد احتكاكات طائفية في حمص، أواخر الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني9، على خلفية جريمة قتل مروّعة شهدتها بلدة زيدل، وراح ضحيتها رجل وزوجته من عشائر المنطقة.
تقديري أنّ غالبية العلويين تقبّلوا سقوط النظام السابق، ويريدون طي صفحته، والعيش مواطنين أحراراً في سورية موحّدة، مثل بقية السوريين. لا أميل أيضا إلى (أي العلويون)، خاصّة بعد تجربة “التمرد” التي قادها فلول من النظام السابق، في مارس/ آذار الماضي، مُستعدّون لمنح ثقتهم مجدّداً لنظام، وعائلة، سبق وأنّ استخدمتهم وقوداً لبقائها في السلطة، ثم فرّ رأسها بأولاده وأمواله، وتركهم لمواجهة مصيرهم المحتوم. لكني أرى، في المقابل، أنّ بعض العلويين يخطئون إذا رأوا خلاصهم في انغلاقهم على ذاتهم، وفي السير وراء أجندات أو دعوات تعبث بمصيرهم مُجدّداً، فيما يعيش مطلقوها وراء الحدود. لقد أساء هؤلاء التقدير، توًا، في التجاوب مع دعوة غزال إلى مقاطعة الاحتفالات بسقوط نظام بشار الأسد، وكان ينبغي لهم أن يكونوا أوّل المحتفلين، وأكثرهم بهجة، بسقوط النظام الذي تسبّب بقتل عشرات آلاف من أبنائهم، وحمّلهم وزر دماء مئات آلاف من إخوانهم السوريين. بمقاطعتهم الاحتفالات، والتجاوب مع الدعوة إلى الإضراب، أضاع بعض العلويين مرّة أخرى فرصة أن ينضمّوا إلى بقية السوريين في تخطّي الماضي، والتطلّع إلى المستقبل، وإشعار المجتمع الواسع بأنّهم جزءٌ منه. ينبغي أن يدرك العلويون أنّه بمقدار ما لهم من مطالب مُحقّة، تترتّب عليهم، في المقابل، مسؤوليات، والاندماج في المجتمع السوري إحدى تلك المسؤوليات، وكذلك التبرّؤ من كبار مجرمي النظام السابق، ورفض الدعوات التي تحضّ على التجزئة والانفصال. يرتكب العلويون خطأً جسيماً إذا سلكوا مسلك سنّة العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، عندما رفضوا تقبّل التغيير، وتصرّفوا بمنطق الخاسر، الساعي إلى إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، فدفعوا، وما زالوا، ثمناً عظيماُ. لا أرى مؤشّرات على ذلك.
هذا عن مسؤولية العلويين، ماذا عن مسؤوليتنا نحن، ومسؤولية السلطة الجديدة؟ ينبغي أن نرفض، قبل كلّ شيء، تحميل العلويين، طائفةً، وزر جرائم نظام الأسد، فقد كانوا ضحية له، كما كلّ السوريين، على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم. ولذلك، على الحكومة أن تعلن قائمة بأسماء كبار المجرمين، والمطلوبين، من رموز النظام السابق، عملًا بالمبدأ الذي تقرّه القوانين السماوية والوضعية بأنّ المسؤولية الجنائية فردية. هذه الخطوة ضرورية لإعتاق الطائفة العلوية من وزر الدم السوري، وطمأنتها بأنها غير مُستهدفة بكلّيتها. على الإدارة السورية، فوق ذلك، ألا تدفع، بدورها، العلويين إلى تقمّص دور السنّة العراقيين، فهم في سورية، مثل السنّة في العراق، كانوا، بفعل تركيبة السلطة، مُعتمدين بكلّيتهم على الدولة في الوظائف والتشغيل، لذلك أدّى حلّ أجهزة الدولة في العراق، كما في سورية، إلى رمي مئات آلاف وعائلاتهم في براثن الفقر والجوع، ما أوقد جذوة تمرّد، تطوّر إلى حرب أهلية، بدعم خارجي، جاء أكثره من نظام الأسد وإيران اللذين اتفقا على إغراق أميركا في وحول العراق لينجوا بنفسيهما. إذا قرّر العلويون التمرّد فالسبب في ذلك سيكون الجوع، وليس الرغبة في استعادة السلطة، فجلّهم يدرك أنّ هذا صار أضغاث أحلام.
لا تقوم السياسة على علاقات الحبّ والكراهية، بل على المصالح، ومصلحة سورية تقتضي مساعدة العلويين على الاندماج بمجتمعهم، والتمتّع بحياة كريمة أسوة ببقية السوريين. بهذا فقط نمنع وصول أيدي خارجية إليهم، تستغل “مظلوميّتهم”، فقرهم، وتهميشهم، للعبث بوحدة البلاد وأمنها واستقرارها. نتيجة التعقيدات على الأرض، ودوليّاً، وفي الإقليم، فإنّ ملف السويداء، وملف قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، خارج قدرة الحكومة السورية على التعامل معهما حاليًا. الملف الوحيد المُتاح، ويسهل طيه، هو ملف الساحل. على الحكومة أن تتحلّى بالجرأة للقيام بذلك، وسريعاً، لأنّ هذا هو السبيل الوحيد لمنع “النبوءة التي حقّقت ذاتها” عن تحالف الأقليات، إذا نجحت جهود إسرائيل، وأطراف إقليمية أخرى، وتحوّلها إلى قنبلة موقوتة تفجّر البلد.
- العربي الجديد


























