شاءت المصادفة أن يكون أحمد الأحمد، المواطن الأسترالي ابن محافظة إدلب السورية، متواجداً على شواطئ بونداي في مدينة سيدني حين وقع هجوم بأسلحة نارية أسفر عن 16 قتيلاً وأكثر من 40 مصاباً. لكن المصادفة يصعب أن تكون وراء اندفاع الأحمد إلى المخاطرة بحياته وتجريد أحد المهاجمَين من سلاحه تحت وابل من رصاص انهمر على جسده، فتفادى بذلك سقوط المزيد من الضحايا.
وقد يكون هذا التفصيل الحاسم أحد أبرز دروس هجوم سيدني، من حيث إن مظلوميات شتى يمكن أن تدفع مهاجراً إلى ارتكاب عنف جماعي ضدّ أفراد في موقع مدني، أياً كانت درجات انعدام علاقتهم أو اتصالها بالدوافع خلف الفعل العنيف، ولكن مفاعيل تلك المظلوميات ذاتها يمكن أن تقود مهاجراً آخر إلى فعل معاكس يتمثل في السعي إلى الحدّ من عشوائية العنف، والتفريق بين البريء والمُذْنب والمبادرة إلى إنقاذ الضحايا بصرف النظر عن المخاطر المحتملة.
الدرس الثاني هو أن جذور الإرهاب وتصعيد المظلوميات إلى مستويات عنف قصوى تظل بعيدة الغور وتضرب عميقاً في أكثر من تربة سياسية واجتماعية وإنسانية وحقوقية وأخلاقية، وأنها بالتالي لا تُعالج بحلول عنفية مضادة تمسّ سطوح الظواهر دون أعماقها. وليس اعتباطاً أن «تنظيم الدولة الإسلامية» يضرب مجدداً في قارّة بعيدة كل البعد عن المواقع التي أشاعت قوى غربية مختلفة أن التنظيم هُزم فيها عن طريق استهداف قياداته أو خلاياه وجيوبه هنا وهناك.
ليس اعتباطاً أيضاً أن يقترن هجوم سيدني بجرائم حرب الإبادة الإسرائيلية ضد قطاع غزة، فالأرجح أن الأصل في العنف ضد عيد حانوكا ليس نابعاً من كونه احتفالاً دينياً يهودياً، بل لأن الجهة المنظمة في هذا الموقع تحديداً كانت منظمة «حاباد» الصهيونية المتطرفة، التي ترفض الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة، وساندت جرائم جيش الاحتلال في قطاع غزة وسائر فلسطين. وإذا كان هذا الدرس الثالث لا يبرر إطلاقاً العنف العشوائي ضد المدنيين، فإنه في الآن ذاته يصعب أن يُستبعد عن الخلفيات الأعلى تأثيراً في تكييف المظلوميات.
الدرس الرابع هو أن ضحايا من اليهود دفعوا في الماضي، ويواصلون في الحاضر أيضاً سداد، أثمان توجّهٍ اعتمدته الحركة الصهيونية منذ نشأتها، وتفاقمت عواقبه أكثر مع تحوله إلى نهج سياسي وعسكري وإيديولوجي ودعائي متكامل، قوامه التوحيد القسري بين الديانة اليهودية وكل من الحركة الصهيونية ودولة الاحتلال. وكان من قبيل التوسيع التلقائي لهذا الخيار أن مشاعر الغضب والمرارة والسخط والتضامن إزاء ما جرى ويجري في فلسطين، يمكن أن تنتهي أيضاً إلى الخلط بين يهودي يحتفل بعيد ديني على شواطئ سيدني، ومجرم حرب إسرائيلي يقصف مدينة غزة أو يهدم البيوت في طولكرم.
دروس أربعة، ولعل سواها كثير متعدد، لم تتعلم الصهيونية العالمية أي مقدار من مضامينها متعددة المستويات، ليس في الزمن الراهن حيث الحكومة الأشد يمينية وعنصرية وفاشية، بل على امتداد 128 سنة من تاريخ الكيان الصهيوني.
- القدس العربي






















