لا خلاف على أن الحادث الأمني الذي وقع في تدمر خطير بكل المقاييس، سواء كان في دلالته العملياتية، وفي توقيته، أو في الرسائل التي حاول من نفّذه – أو من يقف خلفه مباشرة أو بالواسطة – أن يبعث بها.
غير أن الطريقة التي جرى التعامل بها مع الحدث سياسياً لا تُضيف إلى خطورته بقدر ما تكشف مستويات من السذاجة في قراءة السياسة والاستراتيجية. فالافتراض بأن حادثاً أمنياً، مهما كان قاسياً، يمكن أن يُربك تحالفاً يُصاغ على مستوى الدول والمؤسسات الكبرى، لا على مستوى الانفعالات والعناوين، ليس مؤشراً على عمق التحليل، وإنما على سوء فهمٍ لطبيعة القرار الاستراتيجي الذي تحكمه المصالح لا الصدمات.
وأول مستوى من السذاجة السياسية يكمن في الاعتقاد بأن ما جرى في تدمر شكّل “مفاجأة” لصنّاع القرار في واشنطن، أو أن المؤسسات العسكرية والأمنية الأميركية لم تكن تتوقع اختراقات من هذا النوع في مسرح عمليات معقّد مثل البادية السورية.
هذا افتراض بعيد عن الواقع، فالولايات المتحدة، بخبرتها الممتدة في العراق وأفغانستان وسوريا نفسها، تدير شراكاتها العسكرية على أساس أن التنظيمات الإرهابية – خصوصاً داعش – قادرة دائماً على تنفيذ عمليات نوعية، فردية أو محدودة، حتى في ذروة الضغط عليها. بل إن جزءاً من فلسفة التعاون الأمني الأميركي يقوم تحديداً على إدراك أن القضاء على الإرهاب هو مسار طويل يتخلله نجاحات وإخفاقات واختراقات، وليس حدثاً صفرياً.
ويزداد هذا التقدير رسوخاً إذا ما قُرئ الحدث من زاوية الطريقة التي تعاملت بها المنظومة الإعلامية والسياسية الأميركية معه. فقد كانت النبرة التي سادت في منابر الإعلام الأمريكي نبرة إدارة مخاطر داخل مسار قائم وفعال، ولم تكن نبرة صدمة ولا مراجعة. فلم يُقدَّم الحادث بوصفه كسرَ ثقة، ولا كتحوّل في الاتجاه، وإنما كاختراق أمني متوقَّع في مسرح عمليات مفتوح، يُواجَه بالأدوات نفسها التي أُنشئ من أجلها التعاون القائم.
هذا النوع من القراءة لا يصدر عن شراكات هشّة أو تفاهمات ظرفية، بقدر كونه يعبّر عن تحالف بات جزءاً من الحسابات الاستراتيجية المستقرة، حيث تُفهم الأحداث ضمن سياقها العملياتي، لا بوصفها اختبارات سياسية وجودية. وفي هذا المعنى، فإن البرودة الأميركية في التعاطي مع الحادث ليست تقليلاً من خطورته، وإنما هي دليل على أن العلاقة مع سوريا تجاوزت منطق ردّ الفعل، ودخلت منطق المؤسسية والقرار طويل الأمد، حيث لا تُهدم الشراكات بضربة، ولا تُدار السياسات بالانفعال.
من هنا، فإن الافتراض بأن حادث تدمر سيدفع واشنطن إلى ردّ فعل عاطفي أو ارتجالي، أو إلى إعادة النظر جذرياً في مسار التعاون مع دمشق، يكشف فهماً سطحياً لكيفية عمل الدولة الأميركية. فالقرار في الولايات المتحدة لا يُصنع في لحظة صدمة، ولا يُدار عبر تغريدات أو حملات ضغط إعلامي.
وهذا وهمٌ لا يدرك أن القرار هو دائماً نتاج توازن معقّد بين وزارة الدفاع، والأجهزة الاستخباراتية، والبيت الأبيض، والكونغرس، وكلُّ هذه المؤسسات تعمل بمنطق بارد يقوم على المصالح طويلة المدى، لا على الانفعالات.
وفي هذا السياق تحديداً، تبرز ظاهرة سياسية لافتة تستحق التوقف عندها بجدّية، وتتمثل في التقاء أوهام التفكير الداعشي بأوهام أطراف تدّعي معاداة داعش، لكنها تراهن في الوقت نفسه على هدم التحالف السوري–الأميركي! فالطرفان، على اختلاف خطابيهما وشعاراتهما، يشتركان في الخطأ الاستراتيجي ذاته، والمتمثل في الاعتقاد بأن حادثاً أمنياً طارئاً قادر على كسر مسار تحالف تُديره مؤسسات دولة كبرى بمنطق المصالح طويلة الأمد.
داعش تفترض أن الصدمة تُربك القرار، وهؤلاء يفترضون أن الضجيج يُعيد خلط الأوراق، وكلاهما يجهل أن السياسات الاستراتيجية لا تُبنى ولا تُهدم بالانفعالات. المفارقة أن هذا التقاطع في الوهم يجعل من خصوم داعش السياسيين، من حيث لا يدرون، أسرى المنطق نفسه الذي يحكم تفكيرها، ويتمثل في منطق المراهنة على الفوضى بدل فهم الدولة، وعلى ارتدادات الحدث بدل قراءة المسار. وفي هذا المعنى، يبدو واضحاً إن التحالف السوري–الأميركي لا يواجه تهديداً مزدوجاً، وإنما هو وهمٌ واحدٌ يتكرر بأقنعة مختلفة.
أما المستوى الثاني من السذاجة، فتكمن في افتراض أن من يقف وراء الحادث – سواء كان تنظيماً إرهابياً أو أطرافاً تستثمر وجوده – يملك القدرة على تعطيل مسار تشكّل تحالف سوري–أميركي آخذ في التبلور.
فالتعاون الأمني بين دمشق وواشنطن هو نتيجة عملية تقاطع مصالح طويلة ومُركّبة تتمثل في أن داعش عدو مشترك، وأن الفراغات الأمنية هي الخطر الأكبر على الجميع، وأن استقرار سوريا بات شرطاً ضرورياً لأي مقاربة إقليمية عقلانية. وهذه خلاصات راسخة في التفكير الاستراتيجي الأميركي لا علاقة لها بالشعارات.
أما المستوى الثالث من السذاجة، فيكمن في الاعتقاد بأن مثل هذه العمليات يمكن توظيفها لإعادة إنتاج منطق العقوبات والعزل، وكأن الولايات المتحدة لم تتعلّم بعد عقدين من “الحرب على الإرهاب” أن إضعاف الدول لا يهزم التنظيمات، بقدر ما يوسّع هوامش حركتها. فهذا درسٌ بات بديهياً في واشنطن، حتى لو تأخّر تطبيقه سياسياً. والدليل الأوضح على ذلك أن النقاش داخل المؤسسات الأميركية لم يعد يدور حول ما إذا كان يجب التعاون مع الدولة السورية أمنياً، وإنما حول كيف، وبأي إطار، وتحت أي شروط سياسية وقانونية.
في هذا السياق، لا يمكن تجاهل حقيقة بالغة الأهمية تتمثل في أن الكونغرس الأميركي كان قد طلب منذ شهور من وزارة الدفاع إعداد دراسة عاجلة حول آفاق التحالف العسكري الاستراتيجي مع سوريا، مع مهلة واضحة لتقديمها قبل نهاية شهر شباط فبراير القادم.
هذا الطلب لم يأتِ من فراغ، ولا هو إجراء شكلي. هذا مؤشر على أن العلاقة بين البلدين دخلت مستوى مؤسسياً عميقاً، حيث تُناقش الخيارات ضمن قاعات اللجان، وتُدرس السيناريوهات بعيداً عن الضجيج الإعلامي. ومن يتخيّل أن حادثاً أمنياً – مهما كان مؤلماً – سيُلغي مساراً بهذا المستوى من التحضير، إنما يكشف جهلاً بطبيعة الدولة الأميركية نفسها.
أما المستوى الأكثر سذاجة، وربما الأكثر إيذاءً للمصلحة السورية، فيتمثل في أولئك السوريين الذين سارعوا بعد الحادث إلى بيع وهمٍ سياسي قاتل يوحي بأن ما جرى “نسف” أي تقارب مع واشنطن، أو أعاد سوريا إلى مربع العزل. هؤلاء لا يخطئون في التحليل فحسب، وإنما يشاركون – بوعي أو بدونه – في خدمة أجندات تريد إبقاء سوريا رهينة الفوضى والعقوبات.
فهم يتجاهلون أن الولايات المتحدة تحاسب الدول على طريقة التعامل مع الإرهاب، وليس على مجرد وجود الإرهاب فيها. والفرق شاسع بين دولة تقاتل التنظيم وتدفع ثمناً، ودولة تغضّ الطرف عنه أو توظّفه.
إن القراءة الاستراتيجية الباردة لما جرى في تدمر تؤكد شيئاً واحداً يتمثل في أن الحادث خطير، نعم، لكنه مدخلُ تعزيزٍ إضافي لمنطق الشراكة الأمنية، وليس أبدا نقيضاً لها. إنه تذكير بأن المعركة لم تنتهِ، وبأن التنسيق لا بد أن يكون أعمق، وليس أقل. وهو في الوقت نفسه اختبارٌ للضجيج السياسي، يحقق الفرز بين من يفهم منطق الدول، ممن يعيش على ردود الفعل والشعارات.
ويبقى في نهاية المطاف أن التحالفات الاستراتيجية لا تُبنى على الأمنيات، ولا تُهدم بالاختراقات. إنها تُبنى على المصالح، وعلى قراءة مشتركة للعدو، وعلى إدراك أن البديل عن التعاون ليس إلا الفوضى. ومن لا يفهم هذه القاعدة، سواء كان خصماً مباشراً أو سورياً يروّج الأوهام، فسيجد نفسه خارج الزمن السياسي الجديد الذي يتشكّل، مهما علا صوته، ومهما حاول الاستثمار في الدم والصدمة.
- الثورة السورية






















