
تتعرّض طائفة الموحّدين الدروز في سورية إلى امتحان عسير يهدّد كيانها ومصيرها، امتحان نجم عن اجتماع ثلاثة عوامل متداخلة ومتشابكة ومتعارضة في آن. العامل الأول قيام سلطة جديدة في دمشق خلفيتها سلفية جهادية تتبنى توجّهات فئوية ضيقة، وتتّخذ قرارات سياسية وإدارية تنفيذاً لهذه التوجّهات: نظام سياسي رئاسي ومركزي؛ تعيينات في المراكز السيادية والأمنية على أساس الولاء لا الكفاءة، ومن لون واحد؛ يتوجّه إلى تركيز معظم الصلاحيات بيد الرئيس الانتقالي، ما يعني أن توجهها العام إقامة نظام سلطوي. العامل الثاني تبنّي قادة طائفة الموحّدين الدروز الروحيين، الشيخ حكمت الهجري على وجه الخصوص، وجزء كبير من نخبها الثقافية والسياسية، توجّهات تتباين عن توجهات السلطة إلى حدّ التعارض الكامل. العامل الثالث اشتباك جيوسياسي بين قوى إقليمية ودولية حول النفوذ في سورية تجسّد في تيارَيْن عريضَيْن: تيار يدعو ويعمل على حفظ الاستقرار في سورية عبر المطالبة بصيانة وحدة أراضيها، واستقرارها في دولة واحدة وسلطة واحدة وجيش واحد تتبنّاه الدول العربية وتركيا والإدارة الأميركية؛ وتيار يعمل في تحويل سورية إلى دولة قائمة على محاصصة دينية ومذهبية فتبقى دولةً هشّةً يسهل التأثير في خياراتها وقراراتها، يتبنّاه الكيان الصهيوني وتيارات في إيران ومليشياتها العراقية.
الاعتقالات والقتل عمّقا التوتر النفسي والسياسي بين السوريين الدروز
من السجال السياسي إلى المواجهة العسكرية
قادت مطالبة قادة الموحّدين الدروز بالتعددية والتشاركية إلى سجال سياسي قبل أن ينزلق الموقف إلى مواجهات دامية راح ضحيتها مئات القتلى وآلاف الجرحى والمصابين وخسائر كبيرة في ممتلكات السوريين الدروز وبدو المحافظة، بالإضافة إلى حركة نزوح من القرى والبلدات نحو مركز المحافظة وإخراج البدو منها. وقامت قوات السلطة وفزعات البدو باختطاف عشرات من أبناء طائفة الموحّدين الدروز، بما في ذلك نساء، ونقلتهم إلى خارج المحافظة. توقّفت المواجهات بعد تدخّل الكيان الصهيوني عسكرياً لصالح الموحّدين الدروز بضغط من شيخ عقل الطائفة في فلسطين، الشيخ موفق طريف.
استثمر الشيخ حكمت الهجري، وشخصيات مدنية وعسكرية، المواجهات والخسائر البشرية والمادية الكبيرة في تغذية المشاعر العدائية ضدّ السلطة الجديدة في دمشق، وانتقل من المطالبة بلامركزية إدارية في نظام تعدّدي تشاركي إلى المطالبة بحكم ذاتي، وصولاً إلى المطالبة بإقامة كيان درزي مستقل، مطالبة مشفوعة بطلب حماية دولية خاصّة من الكيان الصهيوني؛ إذ لم يكتفِ الشيخ الهجري والقوى التي يتزعمها، وتسيطر على المحافظة سياسياً وعسكرياً برفع علم الكيان الصهيوني في الاعتصامات والتظاهرات وإطلاق التسمية التوراتية (جبل الباشان) على جبل العرب، بل رُفِعت صور مجرم الحرب بنيامين نتنياهو في مسيرة سيارات داخل مدينة السويداء.
لم يقد وقف إطلاق النار بين السلطة السورية الجديدة والكيان الصهيوني بوساطة أميركية إلى إنهاء الصراع وحلّ الخلاف بين السلطة والشيخ الهجري، وإنما غيّر شكل المواجهة فقط؛ حوّلها إلى خطوط تماس وحواجز ومتاريس ومواجهة منخفضة الحدّة عكستها اشتباكات متقطّعة وهجمات متبادلة عند الحواجز. وفرضت السلطة حصاراً على المحافظة بإغلاق طريق دمشق السويداء وقطع الأغذية والأدوية والمحروقات والكهرباء عنها، في محاولة لدفع الشيخ الهجري إلى القبول باختياراتها السياسية والإدارية وبشروطها لحلّ الخلاف. تراجعت تحت ضغوط دولية فوافقت على إدخال الأغذية والأدوية والمحروقات، الطحين والمحروقات بشكل رئيس، التي ترسلها الأمم المتحدة وفتحت طريق دمشق السويداء، ورفضت التفاوض السياسي مع وفد من الموحّدين الدروز من الموالين للشيخ الهجري، وصل إلى عمّان، وحصرته بالتفاوض الأمني، ورشّحت العميد أحمد الدالاتي لذلك، وهو المتهم بالإشراف على الحملة العسكرية والمقتلة التي حصلت في المحافظة، ما زاد في تعميق المفاصلة؛ إذ نهبت قوىً عسكريةٌ تابعةٌ للشيخ الهجري منازل البدو واحتجزت المئات منهم رهائن، ومنعت دخول مسؤولين وموظفين تابعين للسلطة إلى مركز المحافظة، بما في ذلك اللجنة الوطنية السورية للتحقيق في أحداث السويداء، وربطت ذلك بالمطالبة بلجنة دولية لذلك؛ وهذا ما كان، فزار وفدٌ من لجنة التحقيق الدولية المستقلّة بشأن سورية السويداء مرَّتَيْن، كما زار عدداً من المجتمعات النازحة في محافظات درعا ودمشق وريف دمشق. وبدأت القوى السياسية الموالية للشيخ الهجري وبتوجيه منه بمأسسة انفصال المحافظة بتشكيل قوة عسكرية موحّدة تحت اسم “الحرس الوطني”، أتبعته بتشكيل اللجنة القانونية العليا ولجان للإدارة المحلية، ولجنة خاصّة بالتعليم، وبإجراء استفتاء على الانفصال عبر دعوة أبناء المحافظة من السوريين الدروز إلى التوقيع على عريضة بهذا الخصوص.
يبدأ الحل في محافظة السويداء في جنوب سورية بعودة البدو واستعادة منازلهم، وبصيغة لامركزية تخفّف الهواجس وتبعث رسالة لبقية المكوّنات
بطرحه مطالبه الاستقلالية: حكم ذاتي بداية وانفصال في النهاية، ورفضه خريطة الطريق التي توافق عليها ممثّلو السلطة السورية الجديدة والأردن، والمبعوث الأميركي توم برّاك، ضيّق الشيخ الهجري على نفسه وعلى أبناء طائفته بوضعهم أمام خيارات صعبة: اشتباك انتحاري مع السلطة السورية الجديدة وفزعاتها البدوية يستجلب تدخّلاً صهيونياً، ويفضي إلى ضحايا ودمار، وإلى ترسيخ قطيعة نفسية وشعورية عميقة بين السُّنة العرب وأبناء الطائفة، وإلى مواجهة مديدة تشلّ الحياة اليومية في المحافظة، أو انقسام بين أبناء الطائفة واشتباك بينهم، خاصّةً أن ليس ثمّة إجماع بينهم على مطلبَي الانفصال والحماية الصهيونية، وهو ما عكسه إعلان جبل العرب الذي أصدرته شخصيات سياسية وثقافية من قلب السويداء (14/11/2025)، وظهور إرهاصات معارضة، وهو ما عكسته الاعتقالات التي نفّذها “الحرس الوطني” ضدّ معارضي توجّهات الشيخ الهجري داخل المحافظة، وشملت اعتقال الشيخ رائد المتني، الذي قتل على أيدي عناصر “الحرس الوطني” بعد تعرّضه للتعذيب والإهانة، والشتم وقصّ اللحية والشوارب، وفق تسجيلات مصوّرة انتشرت في مواقع التواصل الاجتماعي، وعاصم أبو فخر، وغاندي أبو فخر، وماهر فلحوط الذي قتل هو الآخر تحت التعذيب، وحسام زيدان، وزيدان زيدان، وعلم الدين زيدان. كما سيطر موالون للشيخ الهجري على موقع سويداء24 وطردوا طاقمها الذي عُرف بمهنيته وحياديته. جاءت الاعتقالات والقتل لتعكس عمق التوتر النفسي والسياسي السائد بين السوريين الدروز إلى درجة حصول تعذيب وإهانة وقصّ شوارب وقتل، بعد أن كانت الإهانة والشتم وقصّ الشوارب مادّةً لحملة إعلامية وسياسية ضدّ السلطة السورية الجديدة لقيام عناصر من قواتها بذلك ضدّ مواطنين من أبناء الطائفة خلال الهجوم على المحافظة. والمؤسف أن مثقّفين من الموالين للشيخ الهجري دافعوا عن عمليات القتل، وادّعوا أن ذلك إعدام بتهمة الخيانة قرّرته محكمة ميدانية.
استعصاء شديد
تواصلت السجالات الإعلامية، والقطيعة السياسية، بين السلطة السورية الجديدة في دمشق وقيادة التحرّك الانفصالي في محافظة السويداء، مع تراجع الاهتمام الإقليمي والدولي بملفّ المحافظة، ما أثار حفيظة قوى وشخصيات من أبناء المحافظة، ودفعها إلى استغراب تعنّت الشيخ الهجري وتمسّكه بمواقفه وهو يرى المواقف الإقليمية والدولية السلبية من مطالبه ويلمس انسداد الأفق أمام تحقيق مشروعه: انفصال السويداء عن الدولة السورية، بل اتساع دائرة الرفض لهذا المشروع، والإجماع الإقليمي والدولي شبه الكامل على المحافظة على وحدة الأراضي السورية ورفض دعوات الانفصال والتقسيم، بما في ذلك الكيان الصهيوني والرئيس الروحي لطائفة الموحّدين الدروز في فلسطين، موفق طريف، وتبعات القطيعة القاسية على المواطنين في حياتهم واستقرارهم وظروف عيشهم القاسية وتعليم أبنائهم.
لقد اشتدّ الاستعصاء وتعمّق على خلفية تحديد السلطة السورية الجديدة لتوجّهاتها، وأخذها قراراتها، من دون اعتبار للتركيبة المجتمعية السورية؛ وتمسّكها بمواقفها وقراراتها بتجاهل تام لاعتراضات القوى السياسية والاجتماعية ولطبيعة الخلاف وتبعاته المدمرة على البلاد والعباد في حال لم يلق طريقاً مناسباً لحلّه. وموقف الشيخ الهجري، الذي اعتمد سياسة الهروب إلى الأمام؛ فراح يرفع سقف مطالبه كلّما أحسّ أنها لم تلقَ استجابةً من السلطة السورية الجديدة، وأنها لم تلقَ دعماً إقليمياً ودولياً. وقد زاد في حراجة موقفه ما ارتكبته قوات “الحرس الوطني” من جرائم قتل بحقّ معارضي توجّهاته وخياراته، أضعف سرديته ضدّ جرائم السلطة السورية الجديدة التي برّر بها مطالبته بالانفصال. واقع الحال أن الأطراف السياسية والعسكرية في المشهد السوري، من السلطة السورية الجديدة إلى “الإدارة الذاتية في شمال وشرق سورية”، وأذرعها العسكرية، و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، وقوات الأمن الداخلي (الأسايش)، مروراً بالشيخ الهجري وحرسه الوطني إلى “الجيش الوطني”، العمشات والحمزات بشكل خاص، تمارس القمع والقتل وهي تدّعي البحث عن العدالة والمساواة. والأدهى أن دعاة اللامركزية، من “قسد” إلى الشيخ الهجري، سلطويين واستبداديين مثلهم مثل السلطة الجديدة في دمشق، ما سيحول اللامركزيات إلى مركزيات مصغّرة، ويجعل حياة المواطنين في اللامركزيات مثلها مثل حياة المواطنين في الأنظمة المركزية، وأن الموالين لهم وحواضنهم الاجتماعية تستمرئ القتل ما دام هو يطاول خصومها.
دعاة اللامركزية قد يحوّلونها إلى مركزيات مصغّرة إذا ظلّ المنطق سلطوياً
في طريق الحلّ
انعكس الاستعصاء الخانق الذي يشهده ملفُّ محافظة السويداء سلباً على الموقف الوطني العام، وعلى السلطة السورية الجديدة وقواها الأمنية والعسكرية؛ إذ حدّد مساحة تحرّكها وانتشارها، فغدت كما لو كانت تقف عند حدود بين دولتَيْن، وثبّت خطوط التماس بينها وبين قوات “الحرس الوطني”؛ وشلّ قدرتها على تنفيذ ردّ واسع وكبير على استفزازات الطرف الآخر لتلافي تدخّل صهيوني جديد؛ ومنعها من تحقيق هدف ثمين في ما يخصّها، ألا وهو بسط سيطرتها على المحافظة، ما هزّ صورتها في أعين الموالين لها وأضعف موقفها في المفاوضات مع “قسد”، التي استثمرت القطيعة بين السلطة الجديدة، ووجهاء الطائفة العلوية والشيخ الهجري والموالين له من أبناء طائفة الموحّدين الدروز، وطالبت بجلوسهم معها إلى طاولة التفاوض، كما أثّر الاستعصاء في صورة الشيخ الهجري وقدرته على إدارة الملفّ في نظر الموالين له، بعد أن تلاشت فرصة تحقيق أهدافهم وغرقوا في وضع نهاية غير واضحة، وفي نظر أبناء الطائفة الذين يعانون تبعات القطيعة على حياتهم اليومية، حيث نقص الأغذية والأدوية والوقود وضعف الخدمات، وما يثيره الاستعصاء من قلق وتوتر نفسي واجتماعي، وما ينطوي عليه من مخاطر عليهم وعلى أبنائهم ومستقبلهم، خاصّة بعد قتل الشيخَيْن المتني وفلحوط، وما يمكن أن يترتّب عليه من اقتتال داخلي. يستدعي الموقف الدقيق والخطير مراجعة المواقف والعودة إلى التواصل بين الطرفين لكسر الجمود وفتح فرص جديدة لاستعادة الثقة ولمّ شمل الصفّ الوطني.
يمكن أن يبدأ الهجري بقبول عودة البدو إلى المحافظة واستعادة منازلهم وحياتهم السابقة باعتبارها تجسيداً عملياً لإيمانه بالتعدّدية والتشاركية، ويمكن للسلطة السورية الجديدة ملاقاة ذلك في منتصف الطريق عبر تحديد صيغة للامركزية تخفّف هواجس ومخاوف أبناء طائفة الموحّدين الدروز على خصوصيتهم وكرامتهم، وتبعث رسالة إلى بقيّة المكوّنات، من العلويين إلى المسيحيين والإسماعيليين والكرد والسريان الآشوريين، مفادها أنه يمكن الوصول إلى قواسم مشتركة.
- العربي الجديد


























