في البيئات السياسية التي تمرّ بمرحلة انتقالية، لا يكون الخلاف حول السلطة أو السياسات أمرًا استثنائيًا، بل يكون جزءًا من دينامية طبيعية يُفترض أن تُدار ضمن المجال العام. غير أن الإشكالية تبدأ حين لا يعود هذا الخلاف يُعتبر اختلافًا في الرأي أو التقدير، وإنما يُعاد توصيفه أخلاقيًا، أو يُخرَج من سياقه السياسي، ويُحمَّل دلالات تتجاوز مضمونه الفعلي.
ويبرز هذا التحول بوضوح في طريقة التعامل مع الرأي الناقد، فبدلًا من مناقشة ما يُقال، يجري في كثير من الأحيان التشكيك في دوافع القائل، أو في توقيته، أو في آثاره المحتملة.
ومع اتساع هذا المنطق، لم يعد من المستغرب أن يُتَّهَم بعض المعارضين أو المنتقدين بإثارة النعرات الطائفية، كتهمة جاهزة تُستخدم لإبطال الرأي قبل الدخول في مضمونه.
إن الطائفية، في معناها التحليلي، تشير إلى أنماط تاريخية واجتماعية في تنظيم الانتماءات والولاءات، وغالبًا ما ترتبط بتوزيع السلطة والموارد والتمثيل.
هذه الآلية، فعليًا، ليست جديدة في التاريخ السياسي، لكنها تكتسب خطورتها في السياقات الانتقالية، لأنها تُعيد إنتاج منطق السيطرة نفسه الذي ثارت عليه المجتمعات.
ففي أي مجتمع يمرّ بمرحلة انتقالية، لا يتشكّل المجال العام باعتباره مساحة للانسجام أو التطابق، وإنما كحيّز تظهر فيه التوترات الكامنة داخل المجتمع بصورة علنية، حيث يُعدّ هذا الظهور شرطًا ضروريًا لتحويل الصراع من مساراته العنيفة أو الكامنة إلى مسارات قابلة للإدارة السياسية. وحين يُنظر إلى الاختلاف باعتباره تهديدًا، فإن المشكلة تكون في التصوّر السائد لوظيفة المجال العام نفسه.
وبذلك، يصبح تقييد النقاش أو تحييده تحت ذرائع أخلاقية أو وطنية محاولة لإفراغ المجال العام من وظيفته الأساسية، أي تمكين المجتمع من التعبير عن تناقضاته وتنظيمها. لذا فإن المجال العام الذي يُطلب منه أن يكون منضبطًا على الدوام، هو مجال يُعاد تعريفه كواجهة رمزية، ومع مرور الوقت يفقد هذا المجال قدرته على امتصاص التوتر، فيتحول الصراع إلى حالة مكبوتة قابلة للانفجار خارج أي أطر تنظيمية.
وعليه، فإن اتهام شخص أو خطاب بإثارة النعرات الطائفية ينقل النقاش من حقل السياسة إلى حقل الاشتباه الأخلاقي، ويُعيد تعريف الرأي بوصفه خطرًا لا موقفًا. وبذلك لا يعود المطلوب تفنيد الحجة أو الرد عليها، إنما نزع الشرعية عنها من الأساس ووضعها خارج النقاش المشروع.
إن الطائفية، في معناها التحليلي، تشير إلى أنماط تاريخية واجتماعية في تنظيم الانتماءات والولاءات، وغالبًا ما ترتبط بتوزيع السلطة والموارد والتمثيل. غير أن هذا المفهوم يفقد قيمته المعرفية حين يُستخدم بصورة فضفاضة، خارج أي تعريف أو معيار، ليصبح توصيفًا جاهزًا يُلصق بخطابات بعينها.
وبوصفها ظاهرة اجتماعية–سياسية، فإن الخلط بين الطائفية وبين المعارضة السياسية لا يسهم في تحصين المجتمع، إنما يُفرغ المفهوم من معناه، ويحوّله إلى أداة ضبط تُستخدم بشكل انتقائي. وحين تُرفَع دعاوى، أو تُشنّ حملات تشهير، ضد أصوات نقدية أو حتى مخالِفة لمجرد الاختلاف، بذريعة «إثارة النعرات الطائفية»، يصبح السؤال مشروعًا حول ما إذا كان الهدف الحقيقي هو حماية السلم الأهلي.
المفارقة أن هذا الخطاب لا يُطبَّق بالمعايير نفسها على جميع الفاعلين؛ ففي الوقت الذي يُحاسَب فيه بعض المنتقدين على كلماتهم، تُهمَل في المقابل خطابات أو ممارسات تصدر عن متحدثين حكوميين أو إعلاميين أو مسؤولين تنفيذيين، وقد تحمل في طياتها دلالات دينية أو فئوية.
السلطة الانتقالية، بحكم تعريفها، كيان مؤقت لا يستمد شرعيته من الإجماع ولا من الصمت، إنما من قابليته للمساءلة ومن قدرته على إدارة الاختلاف. وحين تُحاط هذه السلطة ببيئة خطابية تُجرِّم النقد أو تُحوِّله إلى تهمة، فإنها تبدأ بالتحول من إدارة انتقالية إلى مركز رمزي مغلق، يُعاد فيه تعريف الوطنية بوصفها طاعة.
إن الدولة التي تخشى الطائفية حقًا تبدأ من خطابها الرسمي، من لغتها، من رموزها. فلا يمكن لجيش يُفترض أنه وطني جامع أن يطلق شعارات دينية أو ذات حمولة فئوية.
هنا يُعاد خلط مفاهيم يُفترض أن تكون واضحة؛ فالدولة تُختزل في السلطة، والسلطة تُقدَّم بوصفها شرط بقاء المجتمع، وأي تشكيك في أدائها يُعاد تفسيره كتشكيك في فكرة الوطن نفسها. هذا الخلط ليس بريئًا، لأنه ينقل السياسة من حقلها الطبيعي، بوصفها إدارة للاختلاف، إلى حقل أخلاقي يُقسِّم المجتمع بين «مخلصين» و«مشاغبين».
كذلك لا يمكن اعتبار حرية الرأي مسألة مبدئية فحسب، بل هي جزء من آلية الحكم نفسها. فالنقد لا يُسقِط الدول أو حتى السلطات، إنما يُبقي المجال العام مفتوحًا أمام تعدد القراءات والاختلافات. أما إخراج السياسة من السياسة، عبر نقلها إلى ساحة الاتهام الأخلاقي أو الطائفي، فهو ما يُضعف الدولة، وليس ما يحميها.
في المراحل الانتقالية، يختلط أحيانًا مفهوم الطاعة السياسية بمفهوم الامتثال المدني. فالأولى تفترض علاقة شخصية أو رمزية بين الحاكم والمحكوم، في حين الثاني يقوم على علاقة قانونية بين المواطن والمؤسسات. وحين يُطالَب الناس بالصمت أو الانضباط بوصفه تعبيرًا عن الولاء، فإننا نكون أمام انزلاق من منطق الدولة إلى منطق السلطة.
إن الدولة التي تخشى الطائفية حقًا تبدأ من خطابها الرسمي، من لغتها، من رموزها. فلا يمكن لجيش يُفترض أنه وطني جامع أن يطلق شعارات دينية أو ذات حمولة فئوية، ولا يمكن لمسؤول انتقالي، بحكم موقعه التنفيذي المؤقت، أن يخاطب الناس بلغة الطاعة الشخصية، سواء كان ذلك من منبر ديني أو من مؤسسة عامة. في الدولة، الطاعة تكون للقانون لا للأشخاص، والولاء يكون للوطن.
إن التجربة السورية، بما تحمله من تاريخ طويل في تجريم الرأي، لا تحتمل إعادة إنتاج هذا المنطق تحت مسميات جديدة. فالمجتمعات التي خرجت من الاستبداد لا تستعيد عافيتها عبر تقييد الكلام، بل عبر تنظيمه داخل فضاء سياسي يسمح بالاختلاف، ويضع حدودًا واضحة بين النقد والتحريض، وبين المعارضة والطائفية، من دون خلط متعمّد أو استخدام انتقائي.
- تلفزيون سوريا



























