قد يستنتج المتابع للنقاش الدائر حول المحكمة الدولية الخاصة بلبنان بأنها محكمة لبنانية خالصة تقع كليا تحت سيادة الدولة اللبنانية، وأن سماتها الدولية تقتصر على موقعها وعلى كون بعض قضاتها والمدعي العام غير لبنانيين، أو أنها تعتمد القانون اللبناني أساسا في أعمالها. وبالتالي نجد من يطالب بإلغائها بقرار حكومي أو بوقف التمويل عنها لاعتقاده بأن المحكمة أداة سياسية وجدت لتحقيق أغراض خاصة تخدم أعداء لبنان، أو بدافع الخوف على الأمن والاستقرار الداخلي في حال تم اتهام أو إدانة جهات داخلية بعمليات الاغتيال. وآخر يدعمها لأسباب قد تراوح بين الرغبة المحقة في كشف حقيقة أعمال إرهابية طاولت عددا من الشخصيات السياسية والفكرية والإعلامية، والرغبة الضالة في توظيف ما ينتج عن التحقيق والمحكمة لخدمة أغراض خاصة سياسية أو خلافها.
غير أن التقويم الموضوعي للعوامل التي أدت إلى التحقيق الدولي وإقامة المحكمة، يشير إلى أن الدور اللبناني في ذلك كان متواضعا جدا بدليل أن تأسيس المحكمة جاء بالرغم من عدم استيفاء الموافقات الدستورية اللبنانية عليها. إنما جاءت نتيجة عجز السلطات اللبنانية عن القيام بمسؤولياتها تجاه الجرائم التي ارتكبت على أرضها وفقدان السيادة الوطنية، في فترة يشهد مسار العولمة تقدما ملحوظا، خاصة عولمة العدالة التي حققت أبرز انجازاتها حتى اليوم في بدء المحكمة الجنائية الدولية أعمالها بعد التصديق على معاهدة روما الخاصة بها في عام 2002.
يذكر أن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان كانت قد أنشئت بناء على قرار مجلس الأمن رقم 1664 وتاريخ 26 آذار 2006 الذي وجه الأمم المتحدة بعقد اتفاقية مع الحكومة اللبنانية بهذا الشأن. وعندما تعذر على مجلس النواب اللبناني الموافقة على الاتفاقية، قام مجلس الأمن بالتصديق على الاتفاقية بالرغم من عدم موافقة السلطة الأولى في النظام اللبناني، وذلك بقرار رقم 1757 بتاريخ 30 أيار 2007، تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. ويشار الى أن مجلس الأمن، ومن خلفه المجتمع الدولي، باتخاذه هذا القرار، قد أخذ على عاتقه، ليس مسؤولية إنشاء المحكمة فحسب، بل أيضا مسؤولية نتائج التأثيرات المحتملة لقراره على الأمن والاستقرار في لبنان.
كما أن اعتماد التشريع اللبناني، باستثناء عقوبة الإعدام والأشغال الشاقة المؤبدة، كالمرجع القانوني للمحكمة، أو ضم قضاة لبنانيين إلى هيئتها، لا يمثل اعتبارا خاصا أو عملا استثنائيا يعكس أهمية الدور اللبناني في تأسيسها. حيث أن جميع المحاكم الدولية الخاصة التي أقيمت سابقا، مثل المحكمة الدولية الخاصة بسيراليون، والمحكمة الخاصة بالبوسنة والهرسك، والمحكمة الخاصة برواندا، جاءت جميعها هجينة كالمحكمة الخاصة بلبنان. من الواضح أن المبرر الرئيسي لإقامة المحكمة، هو أن الجرائم التي اقترفت والبيئة السياسية والإدارية والأمنية التي أحاطت بها، تستوفي شروط تدخل الشرعية الدولية كما حددتها معاهدة (ميثاق) روما الخاصة بالمحكمة الجنائية الدولية، وهي التالية:
• أن تكون الجريمة قد وقعت على أرض بلد صدق على المعاهدة أو قبل صلاحية المحكمة أو أن يكون المتهم بالجريمة مواطناً لبلد صدق على المعاهدة أو قبل صلاحية المحكمة، ولكن البلد غير مستعد أو قادر على القيام بالتحقيق والمقاضاة.
• أن يكون البلد قد قام بالتحقيق في الجريمة ولكن قرر عدم المقاضاة بسبب عدم استعداده أو عدم قدرته على المقاضاة.
• أن الجريمة تمت إحالتها إلى المحكمة بواسطة مجلس الأمن الدولي.
فالجرائم التي نحن بصددها استوفت الشروط لكن عدم إحالتها على المحكمة الجنائية الدولية يعود إلى أن جرائم الإرهاب لا زالت خارج صلاحياتها بسبب عدم التوصل إلى اتفاق حول تحديد موحد لجريمة الإرهاب حتى الآن. وتقتصر صلاحيات المحكمة حاليا على جرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، وجرائم الاعتداء (ِAggression). وبالتالي فإن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان وشقيقاتها المحاكم الدولية الخاصة الأخرى ما هي مبدئيا إلا امتداد مكمل للمحكمة الجنائية الدولية.
وان لم تكن المحكمة صناعة لبنانية، فهي ليست صناعة أميركية أو إسرائيلية كما يعتقد البعض. حيث يمكن القول ان مسار عولمة العدالة يشق طريقه بالرغم من المعارضة الأميركية والإسرائيلية له. فالولايات المتحدة وإسرائيل كانتا من بين سبع دول فقط، مع الصين والعراق وليبيا وقطر واليمن، صوتت ضد معاهدة روما الخاصة بالمحكمة الجنائية الدولية، مقابل 120صوتا مؤيدا و21 صوتا ممتنعا. كما قامت لاحقا كل من الولايات المتحدة وإسرائيل والسودان، التي وقعت المعاهدة ولم تصدق عليها، بسحب توقيعها بعدما نالت العدد المطلوب من المصادقات لتدخل حيز التنفيذ في عام 2002. وتعود معارضة أميركا لعولمة العدالة إلى عوامل عدة أبرزها:
– الموقف التاريخي لمعظم اليمين الأميركي المحافظ المعارض لدور المنظمات الدولية والتكتلات الإقليمية بشكل عام، وبشكل خاص لمنظمة الأمم المتحدة وتفرعاتها. حتى أن هذه القوى تعارض أي سياسات أو توجهات تعزز دور السلطات الفيديرالية الأميركية (السلطة الاتحادية) على حساب السلطات المحلية، فكيف بالأحرى المنظمات والمؤسسات العالمية؟ ويشار إلى أن هذا التيار السياسي قد بلغ أوج نفوذه خلال إدارة الرئيس جورج بوش الابن التي تقاطعت فترتها مع إقامة المحكمة الجنائية الدولية والمحكمة الدولية الخاصة بلبنان.
– الرغبة لدى العديد من مراكز القوى الأميركية بتعزيز الدور الإمبراطوري (القطب الأوحد) للولايات المتحدة، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في عام 1990. حيث أن مسار العولمة بشكل عام، وعولمة العدالة بشكل خاص يقلص من سلطات القانون الوطني لمصلحة القانون الدولي، وبالتالي يحد من حرية الدولة العظمى في إدارة علاقاتها الدولية.
– الخوف من أن يطاول القانون الجنائي الدولي الأعمال العسكرية والأمنية التي تقوم بها جهات رسمية أميركية، من مؤسسات أو أفراد في مناطق عديدة من العالم، من بينها العراق وأفغانستان وباكستان وغيرها. حيث قد يصنف بعضها جرائم حرب أو جرائم اعتداء أو جرائم ضد الإنسانية. وقد كانت هذه الاعتبارات خلف إصرار الولايات المتحدة على أن تقتصر صلاحيات المحكمة الجنائية الدولية على الدول المصدقة على معاهدة روما. وتحسبا لازدياد الضغط العالمي عليها نحو التصديق على المعاهدة مستقبلا، ضغطت خلال المؤتمر الأول لمراجعة معاهدة روما الذي عقد في كمبالا (أوغندا) في حزيران من هذا العام على أن لا تفعّل صلاحيات المحكمة الجنائية الدولية في محاكمة جرائم الاعتداء قبل عام 2017 ، وعلى أن يتم إحالة مثل هذه الجرائم على المحكمة بقرار من مجلس الأمن الذي لديها حق النقض فيه.
كما أنه من البديهي أن تعارض إسرائيل أي عمل يعزز سلطان الشرعية والعدالة الدولية، ليس بسبب بعض العوامل المذكورة أعلاه فحسب، بل أيضا أكثر أهمية، لموقع إسرائيل خارج الشرعية الدولية منذ قيامها في عام 1948. حيث أنه، وفي ما عدا قرار تقسيم فلسطين، فإن جميع قرارات الشرعية الدولية تقوض شرعية كيانها. ولا يمكن أي مراقب موضوعي إلا أن يعترف بأن المأزق التاريخي والرئيسي لإسرائيل، ليس امنيا فحسب، بل وبقدر أكبر مأزق قانوني وشرعي. هذا فضلا عن الملاحقات القانونية في عدد من الدول المتقدمة التي أصبحت تقض مضاجع المسؤولين الإسرائيليين من مدنيين وعسكريين. وبالتالي ليس مجديا استراتيجيا لإسرائيل أن تعزز القانون الدولي في هذا الوقت حتى لو خدم هذا التوجه مصالح ظرفية.
يتركز دعم حركة عولمة العدالة وسيادة القانون الدولي في أوساط الجمعيات والمنظمات العالمية المدافعة عن حقوق الإنسان، وتلك الداعمة للسلم والمناهضة للعنف، وجمعيات حماية البيئة، والمنظمات المهتمة بمحاربة الفقر وتحقيق العدالة الاجتماعية ومواجهة كل أنواع التمييز. وليس من الصدف أن تأتي منظمات غير حكومية مثل منظمة "مراقب حقوق الإنسان" (Human Rights Watch) و"منظمة العفو الدولية" (Amnesty International ) في مقدم الداعمين لإقامة المحكمة الدولية الخاصة بلبنان والمطالبين بضم جميع الجرائم التي تلت اغتيال الرئيس رفيق الحريري إلى ملف التحقيق الدولي. كما تحظى حركة عولمة العدالة بتأييد واسع بين مجموعة الدول الأوروبية، حيث تعتبر "المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان" التي تأسست في عام 1998 نموذجا متقدما لعولمة العدالة. وتوفر هذه المحكمة للمواطن الأوروبي ملجأ لحماية حقوقه الإنسانية. وكدليل على شعبيتها فقد بلغ عدد القضايا المرفوعة على قائمة الانتظار نحو 120 ألف حالة بحلول عام 2010.
ومن مفارقات الجدل القائم حول المحكمة أن القوى العالمية الداعمة لها هي القوى ذاتها تقريبا التي تدعم الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني وتقف إلى جانب الحق العربي في تحرير الأراضي المحتلة وتطبيق قرارات الشرعية الدولية. كما أن معظم هذه القوى رفضت وصم المقاومة الوطنية اللبنانية بالإرهاب، وأدانت بشدة الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان وغزة في فلسطين، خاصة مجزرتي قانا، وغيرها من الجرائم الإسرائيلية بحق المدنيين.
لا يعود شبه استحالة التأثير بمسار المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، لكونها دخلت المنظومة المؤسسية للشرعية الدولية فحسب، بل لكون أي فشل لها في كشف الحقيقة، سيلحق ضررا كبيرا في مسار عولمة العدالة ويضعف صدقية مؤسسات القانون الدولي. فالمجتمع الدولي قد استثمر الكثير ولفترة طويلة تقارب قرنا من الزمن للوصول إلى منظومة العدالة الدولية الحالية، بحيث يصبح من المستحيل التضحية بهذه الانجازات لأي سبب حتى لو كان الثمن هو أمن لبنان واستقراره. كما أن حماية صدقية العدالة الدولية تفرض مستوى من الأداء من المحكمة لا يقل عن أداء المحاكم الدولية الخاصة السابقة. وبالتالي، فان هذه المحكمة التي – في أبعد الاحتمالات – قد تفشل في إدانة المذنب لأسباب موضوعية مثل عدم توافر الأدلة الكافية، لن تدين بريئا حتماً. إن أمن لبنان واستقراره ليسا ثمن استمرار المحكمة كما يعتقد البعض، نظرا الى أن سماح المجتمع الدولي للفوضى يعني تخليه عن مسؤولياته المترتبة عن إقامتها. وهذا إن حدث سيكون مضرا بمسار عولمة العدالة بمقدار الضرر الذي قد ينجم عن فشل المحكمة. وبالتالي قد يؤدي أي انهيار للوضع الأمني يخرج عن سيطرة السلطات الوطنية،لا سمح الله، إلى وضع لبنان تحت الوصاية الدولية المباشرة. أما السيناريوات المتعددة التي تفترض أدوارا لقوى محلية أو إقليمية أو دولية في فرض الأمن والاستقرار، فإنها تفتقر إلى الواقعية، حيث أن الشرعية الدولية لديها أدواتها الذاتية وليست في وارد التعاقد من الباطن مع هذا الفريق أو ذاك.
(كاتب لبناني)
"النهار"




















