في مقابلة نشرتها مجلة “تايم” الأميركية مع رئيس الوزراء الصيني وين جياباو على هامش زيارته الأخيرة إلى الولايات المتحدة، ألقى فيها هذا الأخير الضوء على عدد من القضايا المهمة على رأسها مسألة الإصلاح السياسي في الصين، حيث قال: “لقد لخصت مبادئي السياسية في الأفكار الأربع التالية: تمكين كل فرد من أن يحيا حياة سعيدة وكريمة. وأن يشعر كل فرد بالأمن والأمان. وأن تسود المجتمع المساواة والعدالة. وأن يثق كل فرد في المستقبل. وبرغم وجود بعض المناقشات والآراء المختلفة، وبعض المعارضة، في المجتمع، فسأواصل العمل وفق هذه المبادئ ولا أحيد عنها، وأتقدم في حدود قدراتي لإعادة الهيكلة السياسية”.
لم يكتف وين جياباو الذي يعتبر عموما أكثر ليبرالية من هو جينتاو بذلك، بل إنه أحدث مفاجأة مطلع تشرين الاول الجاري بإدلائه بتصريحات غير مسبوقة لقناة سي إن إن الأميركية منعتها الرقابة في الصين. وقال وين جياباو “أعتقد أن حرية التعبير ضرورية في جميع البلدان”. وأضاف “علينا توفير الظروف التي تسمح (للشعب) بانتقاد عمل الحكومة”، مقراً بأن الدعوات إلى “الديمقراطية والحرية ستفرض نفسها لا محالة”.
تمثل تصريحات وين جياباو الأخيرة رأي فصيل داخل الحزب الشيوعي الصيني الذي انعقد مؤتمره العام السنوي للجنة المركزية التي تضم 300 عضو، يوم 15 تشرين أول 2010، حيث تصاعدت الدعوات المنادية بمزيد من الديمقراطية في الصين بعد أسبوع من منح ليو تشياوبو جائزة نوبل للسلام.
ورغم أن الإصلاحات السياسية غير مدرجة رسميا في برنامج هذا المؤتمر العام الذي سيناقش الخطة الخمسية للفترة 2011-2015، فإن الخبراء يعتقدون أنها ستفرض نفسها على المؤتمر، الذي سينبثق عنه طاقماً جديداً، هو الذي سيتولى قيادة الصين خلال المرحلة المقبلة
مع اقتراب انتهاء ولايتي الرئيس هو جينتاو ورئيس الوزراء وين جياباو عام 2013.
كل شيء يتغير في الصين . فمنذ أن أرسى الزعيم التاريخي الراحل دينغ سياوبنغ خط “التحديث الاشتراكي”, والقيام بالإصلاحات الاقتصادية, عنوانا، وانقلابه على خط ماوتسي تونغ ، أصبح المجتمع الصيني ممتصا من قبل إعصار التحولات الحقيقية ، من انتفاضة ساحة تيان آن مين الطلابية التي تجاوزت مطالبها الكثير من حدود الليبرالية المفتوحة من قبل دينغ، إلى رأسمال المتعدد الجنسية الذي يعمق تغلغله بشراهة في قلب السوق الواعدة للقرن الواحد والعشرين .
وتعيش الصين في ظل الانطلاقة المذهلة لرأسماليتها الفتية بماركتها الفريدة التي تتميز بأن لا يأكل الإنسان أخاه الإنسان (والتي لا تزال تعرف رسمياً باسم الاشتراكية بخصائص صينية) ، التي أحدثت تغييراً غير مسبوق في المجتمع الصيني. إذ تعتبر سنة 2010 سنة الصعود المدوي للصين إلى المرتبة الثانية كقوة اقتصادية عالمية خلف الولايات المتحدة الأميركية بكثير، ولكنها متقدمة على اليابان. ففي الثلاثة الأشهر الثانية من هذه السنة، ارتفع الناتج المحلي الإجمالي للصين إلى نحو 1336،9مليار دولار(1053 مليار يورو) مقابل 1288،3مليار دولار لليابان. وأصبحت الصين مصنع العالم، وتعطشها إلى الطاقة والموارد يؤثر في أسواق العالم في النفط والسلع، وعلى الصعيد الدبلوماسي كذلك، تتعاظم أهميتها، باتباعها سياسة خارجية تقوم على البراغماتية والنفعية بدلاً من الايديولوجيا .
وباختصار، أكدت الأزمة الكبيرة للعولمة الليبرالية دور الصين كمحرك للتاريخ، معززة بذلك انتقال مركز الرأسمالية العالمية نحو الشرق الأقصى. فقد أحدثت الرأسمالية الصينية تغييرا جذريا في البنية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد، إلى درجة أن النظام اليوم أصبح مرغما على الاعتراف بطبقة الرأسماليين التي لا تزال عاجزة عن فرض رؤيتها السياسية والأيديولوجية، وإقراره في النظام الداخلي للحزب الشيوعي الصيني، الذي أفسح في المجال أمام صعود جيل جديد من القادة إلى قمة هرم السلطة .
لقد اتخذ الحزب الشيوعي بعضا من الوقت لكي يستوعب أبعاد هذا الانقلاب التاريخي الذي أفلت من خياراته الاستراتيجية الأولية. ففي المؤتمر العام السادس عشر سنة2002، أدخل الحزب تعديلات تاريخية في إيديولوجيته الرسمية لجهة الإعتراف بالفئات الاجتماعية الرأسمالية التي تشكلت في الفترة الماضية ، حيث إنه أصبح مسموحا للرأسماليين الخاصين الدخول إلى الحزب الشيوعي من بابه الكبير، بعد أن كانوا يتهمون في الماضي بـ” العدو الطبقي “.
فبعد سنوات من المعارضة الإيديولوجية، أصبح من المستحيل على الحزب الشيوعي أن يستمر في قيادة المجتمع الصيني المتحرك بقوة نحو الاندماج الكلي في نظام العولمة الليبرالية في القرن الحادي والعشرين ، بينما نظامه السياسي الستاليني المتصلب، أصبح ينتمي إلى عهد الحرب الباردة .
لهذا اقتضى الأمر إبطال مفعولهم المتنامي من خلال ابتلاعهم من قبل ماكينة الحزب البيروقراطية . لكن الصين لن تستطيع أن تصبح قوة عظمى في القرن الواحد والعشرين إذا لم يقم الحزب الشيوعي الصيني بإصلاح سياسي جذري في منظومته الأيديولوجية، يفسح في المجال لحرية التعبير وتأسيس الديمقراطية التعددية، اللتين تعبّدان الطريق لولادة دولة حديثة تمارس مراقبة سلطة الحكومة ومحاسبتها.