القدس العربي
سواء كان من يتمردون اليوم من الإسلاميين أم العلمانيين، الضالعين في العلوم السياسية أم الذين لا يفقهون حرفا واحدا منها ولا يهتمون أصلا بالشأن العام، من الشباب أم الشيوخ، النساء أم الرجال، الأطفال أم الكهول، العمال أم البرجوازيين، التجار أم الفلاحين… هناك شيء مؤكد لا مجال للنقاش فيه، هو أن التمرد ما كان ليحدث في تونس ومصر، لو أن سلطات هذين البلدين وافقت ذات يوم من مطالع القرن، قبل عشرة أعوام كاملة، على إجراء إصلاح يلاقي المجتمع في مكان ما، حتى إن كان قبل منتصف الطريق بمسافة لا بأس بها.
ركع الشعب العربي على ركبتيه طيلة سنوات وسنوات يرجو سادته إصلاح شؤونه: بتدبير عمل لأبنائه وبناته، وخاصة منهم من أنهوا دراساتهم الجامعية، وإعطاء المواطنين وخاصة القوى العاملة منهم حصة معقولة من ثروات وطنهم، عبر توزيع عادل نسبيا للدخل الوطني، والحد من الفساد والإفساد، والإقلاع عن التمييز بين بنات وأبناء الشعب الواحد، الذين يجب أن يعاملوا على قدم المساواة، فيخضعوا جميعهم لقانون يكون السيد الوحيد في الدولة، ولا يخضع بعضهم لقوانين متباينة تطبق بصورة كيفية / مزاجية هدفها اختلاق تفاوت عميق بينهم، بينما يخضع القانون لبعضهم الآخر، ولا ينصاعون كالأغنام لإرادة شخص أو قلة عليهم اعتبارها ضربا من قانون إلهي مقدس لا يجوز الخروج عليه أو الامتناع عن الرضوخ الأعمى له، واحترام الإنسان، بالإقلاع عن إذلاله في كل كبيرة وصغيرة، ومعاملته وكأنه غريب يتطفل على موائد الحكام في بلد ليس وطنه، أو فرد في قطيع بهائم يعيش ليأكل ويشرب ويتناسل، فلا حاجات روحية أو إنسانية لديه، ولا معايير تحترم إنسانيته، لطالما عدت مواقف الحكومات منها مصدر شرعيتها وحتى حياتها، وإلا لما سقطت نظم جبارة لسبب وحيد هو أنها أساءت معاملة مواطنيها وتجاهلت حقوقهم، وقوضت مشاركتهم في شؤون وطنهم، وتجاهلت أن المواطن هو الذي ينتج خيرات وطنه ويحافظ عليه في السلم، ويقاتل ويموت دفاعا عنه في الحرب، فلا مفر من أن يتمتع بقدر من الحرية الشخصية والفردية يتيح له أن يكوّن رأيه الخاص، ويعبر عنه فلا يعد جريمة تستحق العقاب، إن هو خالف رأي حكومته، ولا يكون ما فيه من خطأ محتمل مؤامرة مدبرة ومقصودة على الوطن.
بعض الخبز وبعض الحرية: هذا ما جثا المواطنون العرب على ركبهم يستجدونه من حكامهم… دون جدوى. لم يرفض هؤلاء فقط الاستجابة لشعوبهم، بل حولوا مطلب الإصلاح إلى مؤامرة خارجية، وجعلوا شعوبهم المطالبة بتحقيقه عميلة للخارج، وقلبوها من جهة لها حقوق إلى جهة تجهل مصالح وطنها، بلغ انعدام رشدها وفقدان إدراكها حدا يجعل من الضروري تشديد وصاية حكامها وأجهزتهم عليها، وإخضاعها لدورات تدريبية في الولاء لحكوماتها، الذي لا شك في أنه جوهر ولب الوطنية ومعناها الوحيد، بينما تم تصعيد وتنظيم وتكثيف سياسات الإفساد والنهب المفتوح، حتى صارت دون حد أو قيد، في حين انهمرت عصي التأديب الغليظة على رأس كل من تجرأ وفتح فمه ضدها، وفرضت ضروب جديدة ومبتكرة من الحرمان والظلم على مواطنين بسطاء عرفوا بخضوعهم الفطري لحكامهم، ليسوا قطعا في حسابات الخارج حتى يكلفهم بالتآمر على بلدانهم، رغم قلقهم على حاضرهم ومستقبلهم، وحيرتهم أمام تناقص مواردهم وتزايد شقائهم وكدهم، وتراجع قدرتهم على التحكم بحياتهم، وعلى مواجهة أعبائها المتعاظمة. حدث هذا كله، في حين كانت لقمة العيش تفرض عليهم أعباء ثقيلة تفاقم عجزهم باضطراد عن حملها، وكانوا يرون بأعينهم أنماطا من البطر والترف لا تترك أي مجال لأي حديث عن الأخوة في الوطن، وتقوض أي ولاء لها، وتشهد على أنه وطن لقلة غريبة الدور والصفات، لا عناء ولا عنت في حياتها، بل ثمة وفرة وبطر لا يصدقان، مع أن من ينتمون إليها لا يتعبون أكثر من غيرهم ولا يتمتعون بذكاء خاص يفوق ما لدى مواطنيهم، ولا يقدمون خدمات تسوغ ما لديهم من ثروات أسطورية وامتيازات خرافية.
… والغريب أن النخب الحكومية لم ترفض الإصلاح بحجة الدفاع عن الاستقلال الوطني والسلام الأهلي فقط، بل أبدت بعد ذلك قدرا من الاستهتار بالحقيقة والواقع جعلها تؤكد أن أحوال مواطنيها على خير ما يرام، وكيف لا تكون كذلك وهم ممثلون في الحكم ومصالحهم مكفولة على أفضل وجه ؟
ومع أنني لا أود التوقف طويلا عند تصريحات الرئيس المصري حسني مبارك عن ‘هويتنا وخصوصيتنا التاريخية، التي لا تسمح بإجراء إصلاح يهز قيمنا ويخالف تقاليدنا’، فإنني أذكرها باعتبارها دليلا على عارض شديد الخطورة على العرب، تجلى في عجز حكامهم عن فهم واقع بلدانهم، وعيشهم في عالم من بنات أوهامهم لا علاقة له بحقيقة أمورهم ومتطلباتهم، من أغرب الغرائب أنهم يعيشون فيه ويدافعون عنه، ويريدون إقناع شعوبهم بأنه واقعها هي أيضا، فلا بد أن تتمسك به هي أيضا، لكونه جعلها أسعد أو من أسعد شعوب الأرض! هل هناك عجز عن فهم الواقع أفظع من محاولة إقناع الجائع بأنه سعيد لأنه لا يأكل، والسجين بأنه محظوظ لأنه سجين، والعاطل عن العمل بأنه يستحق أن يحسد على حاله لأنه مرتاح! وهل هناك من يفوق في عجزه عن فهم واقع وطنه رجل دولة لا يتحدث عن مشكلات بلاده إلا لكي ينفي وجودها، فهي في رأيه جنة لا تعرف الأزمات أو المصاعب؟
بعجزها عن فهم الواقع، وترك الأمور تتردى وتفسد، يئس المواطن من الإصلاح، واقتنع بأنه سيبقى عرضة للاحتقار الشخصي والظلم الفادح. وبإصرارها على رفض أي إصلاح يخاطب المواطن ككائن حر وكإنسان يستحق الاحترام، وضعت النظم حجر الأساس للتمرد الذي انفجر في تونس، ثم انتقل إلى مصر، ويبدو أنه لن يتوقف عند حدودهما، كما تشير إلى ذلك أحوال اليمن والسودان والعراق والأردن والجزائر… الخ. ومن يراقب السير اليومي للأمور في بلدان عربية كثيرة يجد أن أوضاع شعوبها تردت خلال العقد الأخير في سائر المجالات العامة والخاصة. وتقول أرقام محلية ودولية لا شك في صحتها، أن مستوى التعليم والخدمات والعمل والرعاية الصحية والحريات وحكم القانون قد تراجع بدل أن يتقدم، بينما بلغت الشعوب درجة من المعرفة والتعلم تمكنها من وعي واقعها الخاص وواقع وطنها، ودرس عشرات ملايين العرب وتعلموا ضروبا من المعرفة الحديثة والمناهج الفكرية المتطورة كان من شأنها أن تعمق تناقض واقعهم مع طموحاتهم وقدراتهم، وأن تحفر هوة ازدادت عمقا بلا انقطاع بين وضعهم الذاتي ووضعهم العام، وضعهم كمواطنين يتطلعون إلى التقدم والعيش الحر والكريم، ووضع مجتمعهم ودولتهم، الذي يدفع بهم إلى هاوية لا مخرج لهم منها. رأى هؤلاء في أنفسهم مواطنين جديرين بالحرية، من غير المعقول أو المقبول أن يعاملهم حكامهم كقاصرين لم يبلغوا سن الرشد، بينما انضوت قدراتهم الشخصية والفردية في سياقات تضاهي قدرات أي مواطن آخر في العالم، بما في ذلك مواطن الدول المتقدمة، مكنتهم من فهم ما يجري في بلدانهم بدقة ومن وعي الواقع بين الخاص والعام في وجودهم، وفهم آليات حله.
في هذه الأثناء، كانت تنمو في كل مكان من عالمنا العربي طبقة وسطى تحملت عبء معظم العمل التنموي والإداري والإبداعي في المجتمع والدولة، دون أن يقر لها رسميا بأي قدر من الاستقلالية، أو تؤتمن على أي شأن من شؤون وطنها. وكان الغضب يتراكم في صدور المواطنين المهانين / المحرومين، الذين يعرفون كم يدين بلدهم وحكامه لهم في ما يملك ويملكون، وكم تحرمهم القلة الحاكمة والمالكة، التي لا تشبههم، من حقهم في عوائد عملهم وثروات وطنهم، ومما يستحقونه من حرية واحترام.
بعجز النخب الحاكمة والمالكة عن فهم الواقع، وتصرفاتها المناهضة لأي قانون والتزام أخلاقي ووطني، وثرواتها التي ليس لها ما يبررها في نظر أغلبية الشعب، وبتعاظم وعي وقهر المحرومين، نشأ تنافر شمل الدولة والمجتمع والسلطة والمواطن جميعا، تفاقم إلى أن أبعد الحاكم عن المحكوم وبالعكس، وعقّد مشكلات الشعب بمقدار ما امتدت اليد الرسمية لحلها، وتعاظمت الهوة بين الجانبين واكتسبت شكل يأس مطلق من كل قول وفعل حكومي واستهتار مقابل بأي مطلب شعبي أو مجتمعي، مهما كان بسيطا. في هذه الأجواء، غدا التمرد مسألة وقت ويأس، وعبر عن نفسه في ظواهر حكومية غطت الحياة العامة وأمعنت في دفع الناس إلى حافة الهاوية، ولم تترك لهم، أخيرا، من خيار غير التمرد أو الموت. ولعل ما قاله مهندس مصري في اليوم الأول من التظاهرات الكبرى (25 كانون الثاني/يناير) أن يكون خير معبر عن مزاج شباب مصر غير الحزبي و’غير السياسي’، الذين نزلوا إلى الشارع ضد نظام مبارك القوي والراسخ أمنيا. قال الرجل : أنا عمري 40 سنة، تخرجت من كلية الهندسة قبل أربعة عشر عاما، لكنني ما زلت أعيش في بيت والدي، لأنني لم أعمل أو أتوظف ولو يوما واحدا، ولست متزوجا، وليس لدى أي دخل أو أي شيء آخر في هذه الدنيا. حين سئل لماذا يتظاهر، أجاب : لكي أدمر النظام أو أموت، فأتخلص من خجلي من نظرات أبوي الطاعنين في السن، اللذين يعيشان في الحرمان ليوفرا لي لقمة العيش. لقد أتيت إلى هنا كي أموت، أو يموت النظام الذي سلبني حقي في الحياة. بلغ الوطن العربي مفترق طرق، بعد أن رد مجتمعا تونس ومصر على رفض الإصلاح بتمرد كاسح، عصف بركائز رئيسة في نظاميهما وأثار شعورا من الثقة بالذات لدى غيرهما من مواطنات ومواطني المجتمعات العربية، التي تبدو وكأنها اكتشفت لأول مرة منذ نصف قرن ما تختزنه من قدرات هائلة وغضب. والحال، سواء كانت الثورة في تونس ومصر إسلامية، كما يريد خامنئي لها أن تصير، أو شعبية ومجتمعية وبالتالي ثورة حريات وديموقراطية وعدالة ومساواة، كما يريد لها محركوها من الشباب أن تكون، فإنه لم يبق اليوم أمام حكام العرب غير أحد خيارين: المسارعة إلى إجراء إصلاح تأخروا عقدا كاملا في إنجازه، أو إساءة التقدير والمماطلة ومواصلة الركون إلى تفوق الأجهزة الأمنية على الشعب، فيواجهون خطر تمرد يؤدي إلى انهيار نظمهم، التي ليست أكثر قوة وتنظيما، على الصعيدين الأمني والسياسي، من نظامي زين العابدين ومبارك، ولا تحظى بدعم خارجي أقوى من الدعم الذي توفر لهما. بعد تونس ومصر، لم يعد هناك أي بديل عن إصلاح جدي وشامل، لمن يريد إنقاذ نفسه والاحتفاظ بعلاقة ودية مع شعبه من الحكام العرب.
لو سئل المواطنون العرب، لاختار معظمهم الإصلاح، كي لا يجدوا أنفسهم مجبرين على التمرد. والإصلاح فرصة ذهبية للجميع، خاصة وأن من سيبادر إليه سيكون النظم، وإلا فإنها ستتحمل المسؤولية عن النتائج التي ستترتب على الامتناع عنه، بعد أن أوصلت قسما كبيرا من مواطنيها إلى حالة المهندس المصري، الذي دفعه اليأس من الواقع إلى تفضيل الموت على الحياة!
ــــــــــــــــــــــــــــ