أكثر من تلاتة أسابيع هي المدة التي استغرقها العدوان الإسرائيلي الهمجي على غزة . لكن أحداً لا يمكنه أن يقدر المدة اللازمة لتمكين الجهود الفلسطينية والعربية والدولية من إزالة آثاره . . إذا استطاعت . فحجم الدمار وخاصة على الصعيد الإنساني غير مسبوق في أي من جرائم الحرب المماثلة ، ناهيك عن صنوف المعاناة الدائمة والجروح المادية والمعنوية المفتوحة التي تركتها على أجساد وأرواح سكان غزة والشعب الفلسطيني بأكمله .
إن ما جرى أشبه بمباراة دموية لاستعراض القوة بين جيش مسلح بأعتى صنوف الأسلحة ، ويحتاج لإثبات سطوته ، أطلق العنان لوحشيته في تجاوز كل حد حتى المحرمات ، وبين شعب شبه أعزل إلا من روح المقاومة والصمود ووسائلهما البسيطة ، ويتمتع بطاقة صبر واحتمال أسطورية غدت نموذجاً ومثالاً . تخلل المشهد استعراض كلامي داعم ومساند قدمته مصادر القوة والنفوذ لعدد من القوى والتنظيمات والدول . غير أن المشهد ظل على حاله مثل الحقيقة العارية ( جلاد وضحية ) . وبقي الغزاويون وحدهم بصدورهم العارية وأسمالهم البالية التي خلفها الحصار المجنون والظالم خلال سنوات ، يواجهون مهرجان القتل المنظم الذي مارسته إسرائيل بينما العالم يتفرج ، والعرب يتصايحون ويعقدون اجتماعات ومؤتمرات ويعطلون أخرى ، ويتبادلون التهم والمسؤوليات .
توقفت الحرب إلا أن آلام الفلسطينيين ومعاناتهم لم تتوقف بعد . فالحصار هو الحصار . والمساعدات التي تمكنت من اختراقه أقل من القليل . فحاجة القطاع لإعادة تأهيله للحياة مجدداً أكبر بما لا يقاس وأكثر من جميع التقديرات .
ويبقى ما يثير الاستغراب والمرارة معاً في الأوساط الشعبية العربية والعالمية التي وقفت إلى جانب أهل غزة في هذه الحرب ، وانتصرت لهم بمواقف وتحركات مشهودة ، أن الوضع الفلسطيني لم يتغير بعد الحرب عنه أثناءها وقبلها . فمازال التنازع على السلطة سيد الموقف . وطريقة العمل والأساليب التي أغرت المعتدي وسهلت عليه مهامه العدوانية مازالت هي هي . والتنابذ بين السلطة وحماس – وتالياً بين الفصائل المختلفة – عاد إلى حالته البغيضة حالة التخندق والاستقطاب العربي والإقليمي الذي يوصل إلى نتيجة واحدة مدمرة وهي كسر وحدة الصف الفلسطيني وتسهيل اختراقه ، وإضعاف جهوده في المقاومة والتحرير ومن أجل الاستقلال وبناء الدولة الوطنية .
والوضع العربي المحيط والمحبط مازال على نفس الدرجة من التمترس والانقسام رغم الاجتماعات والاتصالات ولقاءات المصالحة . وهذا مصدر إضافي للوطء الثقيل والأشد مرارة لمعاناة الفلسطينيين من الأهل وذوي القربى .
فأمام إدارة أمريكية جديدة ، هي إدارة دولية بامتياز ، تعلن استعدادها للدخول في مقاربة جديدة لمشاكل المنطقة ، تلعب علاقات التوتر والجفاء بين الفلسطينيين على أرضهم وبفضاء قضيتهم ، وبين العرب في قضايا المنطقة عموماً دوراً بالغ السوء والسلبية في مساعي الانتقال إلى وضع أكثر إيجابية في التعامل مع حقوق الشعب الفلسطيني ، ومعالجة قضايا المنطقة في إطار الحل الشامل والعادل ، والصراع العربي الإسرائيلي على رأس القائمة .
فدون موقف فلسطيني موحد ، يعيد الألق لقضية الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة وجدارته باستحقاق الدولة ، هناك خشية من ضياع تضحيات غزة وصمود شعبها وبسالة مقاومتها على عتبات الأطراف الإقليمية ذات الأجندات الخاصة . ودون حركة فلسطينية مستقلة وموحدة عبر برنامج وطني يعرف كيف يقاوم وكيف يراكم أسباب القوة على خارطة الصراع مع العدو عسكرياً وبالوسائل السلمية ، تبقى القضية على المنابر مثار مزايدات وتنازلات وعطف إنساني بينما الدم الفلسطيني يملأ الشوارع .
وتبرز الحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى لمصالحة عربية ، تعمل على بناء موقف عربي موحد ، وتحصنه ضد الاختراقات الإقليمية والدولية في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه . وتقف ظهيراً صلباً للشعب الفلسطيني ، وفي مواجهة إسرائيل لاستعادة الأراضي العربية المحتلة .
من المؤسف أن تسكت مدافع النار والدمار الصهيونية على غزة ، وتجري ترتيبات لهدنة بين الإرهابي والضحية ، بينما تستمر مدافع الاتهامات والتنابذ الفلسطينية والعربية بالتراشق فيما بينها ، دون أن تجد طريقها إلى السكوت أو الهدنة .
27 / 1 / 2009 هيئة التحرير