أدونيس ورسائله الخائبة الدالة على بنية مراوغة لم تتحرر من موروثاتها التقليدية ، يخفق ثانية في إنقاذ شخصه من مستنقع مؤازرة الظلم.
لا يتمكن أدونيس من التحرر من لا وعيه المذهبي على الرغم من تاريخه الطويل في نقد البنية الدينية، وما جاد به على ثورة دينية واضحة المعالم جرت في إيران قبل أكثر من ثلاثين عاماً، لا يستطيع أن يجود به على الحراك الشعبي السوري على الرغم من أنه حراك شعبي ذي توجهات إنسانية ومدنية كما هو معلن في الشعارات التي حضرت منذ اليوم الأول، فأدونيس يشكك إلى درجة التأكيد بأن هذا الحراك مبني على نزعة دينية ويتجه اتجاهاً دينياً، ويتوسل لذلك ليس رؤى أو مبادئ نطق بها المتظاهرون، إنما يستعين بنصوص أزهرية لا ندري سر إقحامها هنا، علماً أن الأزهر وما يشابهه من مؤسسات لم تناصر أي ثورة في بلاد العربان غلا في وقت متأخر للحاق بركب المنصورين. ولذلك يختزل الثورة بأنها مجرد صراع على السلطة!
ولكي يجعل الدين المتهم الرئيس في كل مقالته، لأنه المحمل الوحيد الذي يستطيع عبره أن يرفض التغيير، فإنه يركز على التراث السلطاني في الإسلام تحديدا، مع أن المشكلة أقدم وأكثر تعقيداً، إلا إذا كان يجد في حروب داحس والغبراء تجليات ليبرالية مدنية، الأزمة بكل تأكيد أزمة ثقافية عربية تمخضت في الإطار الإسلامي وأنتجت تجارب تاريخية هي بمقياس الحاضر أدنى من تقود المجتمعات، لكن في عيانيتها الزمانية والمكانية والثقافية لا بد من نظرة متوازنة معتدلة تقدرها بحسب الظرف التاريخي والمعرفي، وليس مجرد التنكر لها واتهام أي حراك معاصر بأنه ينتسب إليها ويحاول استحضارها بشكلها ومضمونها. بل إن أدونيس لا يجد حرجاً في أن يقفز فوق التاريخ القريب الذي لن يتوافق مع رؤيته التحذيرية، وأقصد سورية ما قبل البعث!
كأني بأدونيس يحاول أن يدافع عن شخصه وموقفه أكثر من محاولته تقديم وصفة تتميز بالوعي والتشخيص الدقيق والاستشراف، فلا الفكرة التي تقوده تؤدي به إلى منحى منصف، ولا تشخيصه المتوهم ينفع في بيان الحال، ولا استشرافه قائم على الواقع والوقائع، فهو إذ يتنكر للتجزيء يمارس تجيئاً أفظع وأسوأ فقط ليسوغ موقفه التخاذلي مع ما كان يدعيه طوال تاريخه من شغف بالكرامة والحرية. يتعامل مع الأفق الجديد في سورية بشكوك يستمدها من ادعاءات سلطة تكذب في كل شيء، ويصم آذانه عن الشارع الهادر الذي يصر أن الغاية هي سورية حرة كريمة ودولة لكل مواطنيها.
ينتقد أدونيس من وقفوا إلى جانب ثورة الشباب، بأنهم يسبغون خيالاتهم وأحلامهم عليها، ويعتبرهم مهاترين، فهو لا يكتفي بالتنكر لمواقفهم الشجاعة، بل يستهزئ بها ويسفهها، وهو الذي طالما انشغل بمعارك لغوية وتاريخية عن نقد البنية الطائفية للنظام في سورية طيلة أربعة عقود، وهو يحاول في مقارنته بين الثوار القدامى والحاضرين أن يموه حقيقة موقفه الرافض للتغيير في سورية، مع أن ثوار اليوم إنما مطلبهم الواضح والصريح هو الحرية والكرامة والمواطنة الكاملة والعادلة، وهم بكل تأكيد يجب ألا يكونوا موضع خلاف عند أي مثقف يحترم كلمته، بينما قد يكون هناك اختلاف بخصوص الناشطين في العقود الماضية الذين تحركوا وفق أيديولوجيات معينة أكثر من تحركهم من أجل أهداف إنسانية عامة.
يبرر أدونيس مخاوفه بالاستناد على عناصر ثلاثة، البنية الدينية للمجتمع، الصراع على السلطة، التغيير في الشكل وليس الجوهر، وهي مخاوف لا تستند إلى سمات واضحة في حركة الاحتجاج الحالية، فلا الشعارات الدينية تسود، وليس هناك أي إشارة للسعي إلى السلطة، فقط حصر المتظاهرون مهمتهم في إصلاح النظام، وعندما ارتكب النظام بحقهم المجازر، أصبح من الضروري المناداة بإسقاط نظام آثم، إضافة إلى السمة الواضحة والجلية والمتمثلة في رفض أي شكل من أشكال الاستبداد والفساد بغض النظر عن المحمل الذي تحمل عليه.
لا يستطيع أدونيس أن يتجاوز حادثة أو اثنتين فردية قامت على أساس الانتقام، وتبرا منها المتظاهرون، ليجعل من التحريض الطائفي سمة للمتظاهرين، وهو المدرك أن هذا التحريض مرفوض تماماً على هذه اللحظة من قبل المحتجين، بينما تحاول السلطة باستمرار إثارته منذ اللحظة الأولى التي انطلقت فيها شرارة رفضه، يحاول النظام أن يخفي جرائمه خلف هذه اليافطة الدنيئة، وهاهو أدونيس يؤازره بإصرار على هذه الأكذوبة الخليعة.
يحاول أدونيس أن يتهرب من المواجهة المباشرة بإثارة أمور جانبية لا شك أن لها أهمية في مرحلة ما، وذلك بالعزف على وتر الحضور السياسي المسيحي في سورية، وهنا يجب أن يتضح تماماً أن هذا الحضور كان قبل نظام الأسدين أكثر تغلغلاً وفعالية، ومن يود أن يتأكد من ذلك فالأمر لا يكلفه سوى العودة إلى ما قبل العهد الأسدي، ولذلك لا يستطيع أدوني سان يتلمس لادعاءاته شواهد من واقع أو أفكار المحتجين أو المعارضين في سورية، بل يتوسل أيضاً نصوصاً أزهرية، وهو يعلم تماماً أن معظم الأزهريين اليوم هم في صف النظام، ويشاركونه الافتراء على المستضعفين الذين يخرجون بأرواحهم العزلاء يواجهون آلة القمع الأسدية من أجل الكرامة والحرية.
حتى في مثاله اللبناني يخفق أدونيس في قراءة هذا المشهد، وهو الذي لطالما استغرق فيه وعاشه في دقائقه، يتغافل أدونيس عن أن المشهد الأكثر طائفية في لبنان يتمثل في حزب الله الذي يخلص للولي الفقيه أكثر من إخلاصه للوطن اللبناني، نعم هناك فئات طائفية أخرى تمارس سياسات طائفية ولكنها كلها على الأقل لا تجاهر بتقديم ولاءاتها على انتمائها الوطني. هذا التغافل لا يليق بمثقف يدعي طوال الوقت انه لا يعيش انتماءً دينياً أو مذهبياً، ويكذب الادعاء المستمر بالانتماء إلى توجه لا ديني.
أدونيس لا يحاول توعية من يناصرون النظام لأسباب مذهبية بأن ينضموا إلى المحتجين والمتظاهرين من أجل دولة مدنية عادلة، إنما يحاول بدأب أن يحذرهم من أنهم (مرشحون لمصائر سوداء، استمراراً للسواد الكارثي في تاريخها)، هذه العبارة تفصح عن كل ما يعتلج في العقل الأدونيسي، فنتيجة سقوط النظام برأيه هي كارثة، تضاف إلى التاريخ الكارثي المزعوم، أدونيس بهذه العبارة لا يستطيع أن يرى في الثورة القائمة على نظام دمشق سوى امتداداً للصراع الأموي الهاشمي، وهذه رؤية لا يمكن وصفها سوى بالتفاهة ومحاولة إهانة شعب بأكمله، وهي لذلك ليست مجرد سقطة، إنما نبرة عداء واضحة لكل توجه إنساني في سورية، وإقرار وقح وصريح في دعم النظام الأسدي، ودعوته للاستغراق في نظام طائفي أكثر سوءاً.
الوثيقة التاريخية التي يطالب بها أدونيس هي مجرد تعمية على الوقائع اليومية لثائرين يطالبون برحيل النظام وبتأسيس نظام تعددي جديد قائم على المساواة والتعددية، الملامح الديمقراطية والليبرالية التي يعبر عنها المتظاهرون أرقى بكثير من الفكر العفن لأدونيس، بكل تأكيد كل بنود الدستور يجب إعادة النظر فيها عبر آليات تليق بمجتمع مدني، وليس عبر تبني الآراء الجاهزة للسيد أدونيس….
الشيخ أدونيس الذي ظننا طويلاً انه قد خرج من عباءة الطائفية، وصدقنا توجهاته الإنسانية، ها هو الشيخ يعود إلى صباه، محاولاً بكل ما يدخره من جهد في التنميق والتزويق والتخفي وراء جمل رنانة ومعاني مخاتلة أن يصدر نظرة لا تكتفي بإثارة النعرة الطائفية فقط، غنما تراهن عليها أيضاً، ليس من الضروري أن ينضم أدونيس إلى شبيحة النظام حاملاً عصاً كهربائية إيرانية أو بندقية روسية، أو قنبلة صينية، هاهو وكما يقول في ختام رسالته البائسة يمارس كلمات قاتلة أكثر من الرصاص.