إذا تبادر إلى الذهن الحراك النسوي في العالم فإننا سنذكر على رأس قائمة المناضلات النسويات كلا من سيمون دو بوفوار ونوال السعداوي، والأخيرة ربما كانت مهمتها أكثر مشقة لأنها واجهت سلطات متعددة، بداية من السلطة السياسية ثم السلطة الدينية، إضافة إلى ذكورية الساحة الثقافية وتخلّف المجتمع. مهمّة شاقة خرجت منها السعداوي أيقونة متجسدة.
القاهرة- توفيت الطبيبة والكاتبة المصرية نوال السعداوي الأحد عن عمر ناهز 90 عاما. بعد أن تدهورت حالتها الصحية في الأيام القليلة الماضية بحسب ما صرحت به ابنتها منى حلمي.
ونعت الدكتورة إيناس عبدالدايم، وزيرة الثقافة المصرية، في بيان صحافي لها، الكاتبة السعداوي، وقالت إن الراحلة اهتمت بالكثير من القضايا الاجتماعية ووضعت مؤلفات تضمنت آراء صنعت حراكا فكريا كبيرا.
استثمار العسف
ولدت نوال السعداوي عام 1931، كان والدها موظفاً حكومياً صاحب دخل محدود، بينما كانت والدتها تنتمي لعائلة ثرية. حاولت أسرتها تزويجها في عمر العاشرة، لكنها حين رفضت، وقفت والدتها في صفها. شجعها أبواها على التعليم، لكنها -كما كتبت في مؤلفاتها- أدركت منذ سن مبكرة أن البنات كُن يحظين بتقدير أقل من البنين، وهو ما سيكون له تأثير بالغ في مسيرتها الأدبية والنضالية.
جمعت السعداوي بين عالم الطب والكتابة الروائية والنضال السياسي، حيث كانت مدافعة مستميتة عن حقوق الإنسان بشكل عام وحقوق المرأة بشكل خاص، كما تعتبر واحدة من أهم الكاتبات المصريات والأفريقيات.
وتعد السعداوي أشهر من نادى بتحرير المرأة، ووضعت مؤلفات حققت صدى واسعا لتناولها قضايا المجتمع بشكل مختلف سواء من خلال أدب الرواية أو المؤلفات الفكرية. بدأت الراحلة الكتابة مبكرا، فكانت أولى أعمالها عبارة عن قصص قصيرة بعنوان “تعلمت الحب” في عام 1957، وأولى رواياتها هي “مذكرات طبيبة” عام 1958.
وأصدرت إثر ذلك العشرات من الكتب التي تُرجم بعضها لعدة لغات أجنبية، كما خضعت بعض مؤلفاتها للمنع من التداول بسبب ما أثارته من جدل واسع مثل “أوراق من حياتي” و”سقوط الإمام” والأخير تمت ترجمته لأكثر من 10 لغات واتسم بالرمزية السياسية والمقصود بالإمام، هو الزعيم السياسي الذي يستخدم الدين ويوظفه لأغراض خاصة به، مثلما فعل الرئيس الراحل محمد أنور السادات.
لم تكن مسيرة السعداوي سهلة ولا طريقها مفروشا بالورود، فقد أمضت عقوداً وهي تعبر عن آرائها من خلال رواياتها ومقالاتها وسيرها الذاتية ومحاضراتها.
تعرضت الكاتبة بسبب أفكارها وكتاباتها إلى السجن والمصادرة والإهمال العمدي فترة حكم الرئيس المصري أنور السادات، وقد اعتقلت في أحداث سبتمبر الشهيرة عام 1981 التي سبقت اغتياله بوقت قليل، ولكنها استثمرت فترة سجنها في سجن النساء بالقناطر لتستلهم منها أهم كتاباتها، فعند خروجها قامت بتأليف كتابها الشهير “مذكرات في سجن النساء” نشر في الأسواق عام 1983.
ولم تتعرض الكاتبة فقط لملاحقات السلطة بل أيضا إلى اعتداءات متكررة من رجال الدين والمتطرفين، فالسلطة السياسية تتجاهلها وتسجنها، والسلطة الدينية تطاردها، لكن محبيها يتزايدون من حولها.
وقد أقيمت ضدها العديد من دعاوى التكفير، ورفض مجلس الدولة دعوى بإسقاط الجنسية عنها، وقد دفعت ثمنا باهظا لمواقفها، لكنها لم تتراجع عن نضالها المستمر بالقلم والموقف من خلال الأدب والفكر.
ولا شك أن التاريخ الإبداعي والنضالي للدكتورة نوال السعداوي الذي أهمله النقد بدوافع أخلاقية وسلطوية بغيضة، بات يتجاوز أعناق هؤلاء من قصار القامة الفكرية، وأصبح يمثل واحدة من المخازي التي تدينهم. ورغم التاريخ الطويل من العسف، فقد نجحت السعداوي في أن تكون واحدة من الأيقونات الإبداعية المصرية والعربية، بل والعالمية.
وحصلت السعداوي على جائزة الشمال والجنوب من مجلس أوروبا وفازت بجائزة إينانا الدولية من بلجيكا، كما نالت جائزة شون ماكبرايد للسلام من المكتب الدولي للسلام في سويسرا.
أعمال لا تهادن
وسط كوكبة كبيرة من المبدعات العربيات والعالميات، ما من شك أن التراث الإبداعي للدكتورة نوال السعداوي كان وسيظل واحدا من أعلى تمثيلات الصورة الطليعية للإبداع المصري والعربي على السواء، فقد استطاعت، بإرادة فردية وضد كل النواميس والأصفاد والقيود الثقيلة علي المستويين السياسي والاجتماعي، أن تفلت من أسر محاذير القبلية والفقه البدوي، ومن يتذكر كتابها الرائد في أدب السيرة الذاتية “مذكرات طبيبة”، الذي صدر في مطلع ستينات القرن الماضي، سيرصد تلك الجرأة غير المسبوقة في فضح واقع متكلس ومريض. وهي القضايا التي قامت بتعميقها في كتابها المهم والمؤثر “المرأة والجنس”.
كما لا يمكننا إغفال مؤلف من بين أهم أعمال السعداوي، بل هو واحد من أكثر الروايات جرأة وتمثله أفضل تمثيل روايتها “سقوط الإمام”، وهي الرواية التي صادرها مجمع البحوث الإسلامية منذ صدورها وحتى أيامنا، فانحيازات الكاتبة التي تذهب إلي إدانة مطلقة لكل صور القمع والعسف تتبدي منذ الإهداء الذي يذهب إلى الإيرانية شهربانو شيراز التي تم اغتصاب طفلتها في السجن، ثم السودانية فاطمة تاج السر، التي قطعت السلطات يد طفلها بتهمة السرقة تحت راية الشريعة ثم كوليت عيتاني اللبنانية، وفاطمة محمود السجينة المصرية التي عايشتها السعداوي في السجن عندما تم القبض عليها في أحداث سبتمبر 1981.
مطلع الرواية مدهش بكل المقاييس، فعبر عدة جمل شديدة التكثيف والابتسار لخصت الكاتبة موقفها من فكرة الألوهية، حيث الإله بالنسبة إليها ليس تلك الكتلة الميتافيزيقية الرهيبة التي تُرتكَب باسمها المجازر والحروب، ويساق باسمها العبيد إلى المحارق، فالألوهية بالنسبة إلى السعداوي تتواجد في وجوهنا وأفعالنا وفي مدى مطابقة نواهي تلك الألوهية لسلوكياتنا اليومية وآداءتنا الفطرية أو المدبرة.
يمثل الإمام الشخصية المحورية في الرواية، وحسب تسلسل الأحداث يتمتع بربوبية مطلقة، فهو لا يضعف ولا يموت، ولا يرد له أحد أمرا، ولا ينطق عن الهوى، ترتكب أعتى الفواحش باسم الله وباسم كتبه ورسله، وهو في حقيقته ليس وحيدا بل هو متعدد وموجود في كل مكان، حيث يوجد في أشباه تقوم بأدواره وتموت نيابة عنه ومعها مفاتيح الجنة، موجود في العسس والعيون المتناثرة في كل حي وزقاق يحصي على الناس أنفاسهم، موجود في صورة قضاته، وكتابه، ورجال أمنه، ورجال دينه، وتجلياته التي لا تنتهي، هو كما عبرت الكاتبة، ظل الله على الأرض والحاكم باسمه.
أما الشخصية الرئيسية الأخرى فهي تلك البنت الموصومة بأنها نبت شيطاني لأنها، كما توصف، ابنة غير شرعية، فقد مات أبوها وهي رضيعة، أما المفاجأة فهي أن الإمام نفسه هو من اغتصب أمها، ورغم علمه بأنها ابنته يتزوجها في أحد محطات الحدث الروائي، ثم بسبب مروقها ورفضها لواقعها تقتل في نهاية الأمر وتصدر الأوامر بدفنها ودفن كل ملفاتها معها.
ربما لتلك الأسباب لا تتراجع المؤلفة عن وصف الإمام في مقدمتها الروائية بأنه شخصية زئبقية، وهو وصف ينطبق أيضا على معارضيه، حيث الحياة السياسية تنقسم إلى حزبين، حزب الله ويمثله الإمام وصفوته، وحزب الشيطان الذي منه تلك الشخصيات الهزلية مثل المعارض الشرعي والكاتب الموصوف بالكبير، وهي معارضة مهمتها الوحيدة تبريرية للسلوك السلطوي الأكثر من خشن.
رغم التاريخ الطويل من العسف فقد نجحت السعداوي في أن تكون واحدة من الأيقونات الإبداعية العربية والعالمية
الواقع الذي رصدته الرواية، هو نفسه الذي كانت تقاومه الكاتبة وتشهد مجازاته اليومية الثقيلة، في مواجهة سلطات غاشمة يمثلها الحكم العسكري أحيانا ويمثلها تحالف رجال السياسة مع رجال الدين في معظم الأحايين، هو واقع كابوسي لازال جاثما. واقع رفضت السعداوي أن تكون إحدى ضحاياه، فقاومته ولازالت تقاوم.
تعليقا على كتاباتها التي لا تهادن، قالوا لها “أنت امرأة متوحشة وخطيرة”، فكتبت قائلة “أنا أقول الحقيقة. والحقيقة متوحشة وخطيرة”. وقد كانت صراحتها الشديدة وتفانيها الذي لا يتزعزع في الدفاع عن الحقوق السياسية والجنسية للنساء مصدر إلهام لأجيال متلاحقة اعتبروها أيقونة أدبية ونضالية.