مثل شبه الإجماع على القيمة المعنوية للراحل ميشيل كيلو وقبله بسنوات، وبإجماع أكبر على رمزية عبد الباسط الساروتدليلين على حاجة السوريين الماسة إلى أقنومات لثورتهم ضد نظام الاستبداد التي تحولت إلى نفق طويل لا يعرف أحد آخره.
ولعل التوحد بالشعور بالحزن الذي لفّ عموم معارضي النظام ونسيان المآخذ التي كان البعض يأخذها على المعارض العريق ميشيل كيلو ينبئان عن وحدة الغاية التي لا تفلح الخلافات الجزئية في التشويش على وضوحها، ولا يغير من هذه الحقيقة بعض الأصوات النشاز التي لم يعرها أحد أي اهتمام إلا على سبيل الاستنكار.
يمثل الاستقطاب الصريح بين معارضي النظام على اختلاف توجهاتهم من جهة وبين مؤيديه من جهة أخرى الذي أعاده جذعًا رحيل كل من الساروت وكيلو حجة قاطعة على أن الوجدان الجمعي للسوريين يحتل فيه التعلق بالحرية مركز النواة.
من هنا فإن المطلوب استثمار هذه الحالة استثمارًا يبني عليها بالتقاط المشترك العابر للخلافات عبر بلورة هذا الإجماع الوجداني في رؤية جديدة نقية من شوائب الخلافات الأيديولوجية.
لا نفشي سرًا إذا تحدثنا عن أخطاء وقع فيها الساروت بدافع من بساطته وبإيحاء من صدقه، كما لا نؤذي كيلو إذا أفصحنا عن زلات قدم له بدافع من ظلال أيديولوجيا لم تبرح بنيته الفكرية، ولكن إذا كانت أخطاء الساروت وزلات كيلو قد أصبحتا من ضمن اللامفكر فيه برحيلهما، فإن لهذا دلالة على أن عموم السوريين ليسوا معنيين بالعثرات في منعطفات الطريق الوعر.
وفي الوقت نفسه يمكن الاستنباط مما ذكر أن مأساة السوريين لا تحمل قابلية الترف الفكري لبعض النخب المشغولة باستقطابات ثانوية، وأنها قد تجاوزت حالة القلق الفكري الذي يمثل سمة ظاهرة لبعض هذه النخب.
إن إعادة بناء عمارة الموقف السياسي باستيحاء من مشترك الاتفاق على الهدف، وبتبصر للعمق الوجداني الذي يتضح جوهره الواحد النقي في كل مرة خلوًا من أي شائبة هو المهمة الراهنة.
ليس السوريون اليوم هم أنفسهم سوريي عام 2011، فقد صنعت منهم المأساة خلقًا جديدًا بعد أن جرّت عليهم كل صنوف العذاب وحمّلتهم من الأعباء فوق ما يطيق البشر، وإن التعامل مع واقعهم بمفاهيم قديمة يعني فواتًا تاريخيًا واستمراء للجمود والعجز عن مواكبة المتغيرات لدى نخبهم.
ولهذا فإن مقاربة تعاطف الساروت مع جهات متطرفة بدافع من بساطته وموقف كيلو غير المنصف من الجريمة التي ارتكبها الانقلابيون في مصر بدافع من أيديولوجيته لا يكون بنفس الثنائيات البالية التي فرضها المؤدلجون ردحًا طويلًا من الزمن على الساحة الفكرية، وإنما بقياس ضآلة أثرهما بالنسبة إلى رمزية الرجلين التي ألقت خارج مدارها كل قدرة تحليلية لهذه الثنائيات.
وهي رمزية صنعتها حال السوريين الجديدة الباحثة خلف الرطانة الأيديولوجية عن جوهر بسيط يتناسب مع كائنات جديدة خلقت من جوف المعاناة وعقدت العزم على غذّ السير نحو الهدف بإرادتها المستقلة بعد أن تكوّن في عقلها الجمعي خبرة واسعة بمضار الارتهان وعواقبه الوخيمة.
وهي رمزية ساهم في صنعها عدم اكتراث بسنية الساروتوجهاديته وبمسيحية كيلو وعلمانيته، وهو ما يقطع بأن كل ما حاولت يد النظام الآثمة أن تصنعه من انقسامات لم يؤت أكله،وأن شعار السوريين الذي انطلق مع بداية ثورتهم معبرًا عن وحدتهم قد أصبح مجسّدًا اليوم أكثر من أي وقت مضى.
إن الاشتغال اليوم ينبغي أن يكون على هذه النتائج الثمينة بمفاهيم جديدة تُستولد بناها من الواقع الجديد وتمضي في تطويره من قابلياته الحالية وليس بفرض مفاهيم عليه من خارج سياقه كما كان دأب النخب المستلبة إما لماض متخيل أو لحاضر مستورد عبر العقود الماضية.
رئيس تحرير موقع – حزب الشعب الديمقراطي السوري