وقع 20 جنرالا وعشرات الضباط من مختلف الرتب، وأكثر من ألف جندي من المتقاعدين في الجيش الفرنسي على رسالة جماعية، يحذرون مما يعتبرونه «تفكك فرنسا» واستعدادهم للدفاع عن قيم البلاد. ولا يعد موقف الضباط غريباً ومفاجئاً في دولة ديمقراطية غربية، بل تكرر خلال الثلاث سنوات في أكثر من دولة، وأبرزها الولايات المتحدة وإسبانيا، وهذا يدل على أزمة الديمقراطية في عدد من الدول الغربية.
ويوجد تصور لدى العديد من المحللين السياسيين والإعلاميين، بعدم تدخل المؤسسة العسكرية في القرارات السياسية والمدنية، خاصة في الدول الغربية، وهو تصور يبقى بعيدا عن الواقع الحقيقي، ذلك أن الجيش يعد فاعلا رئيسيا في صنع معظم القرارات، خاصة في الدفاع والخارجية، بل مستقبل البلاد اقتصاديا واجتماعيا. ويتحرك قادة الدول في القرارات الخارجية على ضوء التقارير التي تعدها مؤسسات متعددة، ومنها المؤسسة العسكرية بحكم هيمنتها على الاستخبارات. هذا الدور الحساس للجيش لا يلمس كثيرا من طرف الرأي العام بل حتى المحللين.
وفي الغرب، وبعد الحرب العالمية الثانية، كان هناك تناغم بين المؤسسة العسكرية والسياسية في اتخاذ القرارات، ولهذا لم تظهر خلافات للعلن، لاسيما في ظل وجود الحرب الباردة، وضرورة بناء الوطن بعد الدمار الذي خلفته الحرب. وبدأت الأوضاع تتغير خلال السنوات الأخيرة، حيث تطفو الخلافات بين السياسيين والمؤسسة العسكرية، وتنتقل إلى العلن. وفي الغالب يتعلق الأمر بعسكريين متقاعدين، ولكنهم يعبرون عن آراء معظم المؤسسة، خاصة الذين مازالوا في الخدمة، ويحتم عليهم الواجب عدم إبراز مواقف سياسية. وعليه، فقد وقع البيان الفرنسي قادة جيش متقاعدون، وهم بهذا يعبرون عن غالبية الجيش. وقراءة البيان تدعو الى القلق، بحكم النبرة الحادة التي يتضمنها تجاه المسؤولين المدنيين في الدولة من الرئيس إيمانويل ماكرون إلى رئيس الحكومة، وباقي الوزراء، ثم الأفكار التي تضمنها البيان، والتي تحذر من تسجيل فرنسا عادات غريبة عنها تهدد مستقبل الجمهورية، ومنها خطر الإسلام السياسي. ومن النقاط الأخرى، تلميحهم إلى سياسة الرئيس ماكرون بإدانة الاستعمار الفرنسي، حيث يعتبرون استعمار دول أخرى، هو من مهام نشر الحضارة الغربية، خاصة الفرنسية. ويخلف نقاش الذاكرة الاستعمارية الفرنسية، خاصة بعد اللجنة الخاصة باستعمار الجزائر التي يرأسها بنيامين استورا، قلقا وغضبا وسط بعض قادة الجيش. وموقف هؤلاء القادة العسكريين ليس بالمفاجئ في الديمقراطيات الغربية خلال السنوات الأخيرة. فالجارة الجنوبية إسبانيا بدورها تسجل دينامية ملحوظة للقادة العسكريين المتقاعدين، الذين يعبرون عن من هم في القيادة حاليا. وإذا كان موقعو البيان الفرنسي يخافون على مستقبل البلاد من التفكك الاجتماعي، بسبب العادات التي يعتبرونها دخيلة على المجتمع الفرنسي مثل الإسلام، يتخوف القادة الإسبان من تفكك البلاد، بسبب مطالب الحركات الانفصالية في كتالونيا وبلد الباسك. وتحرك قادة عسكريون متقاعدون برتب جنرالات، ضد تطورات إقليم كتالونيا، محذرين من احتمال تدخل الجيش في حالة انفصال الإقليم. ومن ردود فعل العسكريين عما يجري في إسبانيا سياسيا، انضمام عدد من الجنرالات المتقاعدين إلى حزب فوكس المتطرف في أطروحاته السياسية تجاه قضايا مثل الهجرة والوحدة الوطنية والدين المسيحي.
الجيش يعد فاعلا رئيسيا في صنع معظم القرارات، خاصة في الدفاع والخارجية، بل مستقبل البلاد اقتصاديا واجتماعيا
وقد يبدو الحديث عن علاقة الجيش بالسياسة في الولايات المتحدة مثيرا للكثيرين بحكم انخراط الجيش في السياسة، خاصة الخارجية، نظرا للوجود العسكري الأمريكي في الخارج، والحروب التي تورط فيها، ويكفي أن عددا من رؤساء الولايات المتحدة كانوا قادة في الجيش مثل جورج بوش الأب، ويتولى عادة وزارة الدفاع جنرال متقاعد من الجيش. في الوقت ذاته، تعد مؤسسات مرتبطة بالجيش مثل «راند» من مهندسي القرارات المستقبلية للبلاد. لكن خلال السنة الأخيرة، تعاظم دور الجيش في السياسة الداخلية للولايات المتحدة، وكان المنعطف مع الأزمة التي شهدتها البلاد في أعقاب تصرف الرئيس ترامب، خلال مقتل جورج فلويد في مايو/أيار الماضي. لقد حاول الرئيس التقليل من هول تلك الجريمة على يد الشرطة، ومن العنصرية، واتهم المتظاهرين بشتى النعوت، وحاول إيفاد الجيش الى الشوارع. لكن قيادة الجيش رفضت، ووجهت اتهامات قوية ضد الرئيس بمحاولة خرق الدستور، وضرب استقرار البلاد. وحدث هذا لأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. لقد كان موقف المؤسسة العسكرية دعوة صريحة الى الناخب الأمريكي بالتخلي عن ترامب. ورغم ارتفاع أصوات في الدول الغربية، تحذّر من اقتراب الجيش من السياسة كما حدث مع البيان أو الرسالة الجماعية في فرنسا، إلا أن الطبقة السياسية تأخذ بعين الاعتبار الملاحظات. ومن ضمن نتائج الرسالة الفرنسية مثلا، تشدد ماكرون أكثر مع الإسلام السياسي في فرنسا، وفي حالة إسبانيا تحرك السلطات بقوة ضد مطالب القوميين في كتالونيا.
تاريخيا، يتم تصنيف الجيش بالمؤسسة المحافظة في مواقفها، وهي عادة ما تبدي في الغرب ملاحظات بطريقة سرية، احتراما لمبدأ عدم الانحياز. لكن التطورات الأخيرة التي تشهدها الدول الغربية، مثل الحالات الثلاث المشار إليها، تبرز تفاقم تدخل المؤسسة العسكرية في القرارات السياسية، وأن لديها أجندة خاصة تدخل ضمن حماية الوطن من المخاطر الاجتماعية والسياسية. وما يجري من مواقف لقادة عسكريين مثل حالة فرنسا، يعد في العمق أزمة الديمقراطية في العالم، ومنها في الغرب أساسا. ورغم وجود علم اجتماع عسكري أو «سوسيولوجية الجيش» إلا أن هذه الدراسات تبقى محدودة وسط الباحثين والخبراء المدنيين، وبالتالي لا يتم استحضار العنصر العسكري في صنع القرارات السياسية، سواء الخارجية أو الداخلية كما هو الآن.
“القدس العربي”