تذكّر القدس وانتفاضة أهلها في وجه الاحتلال بوجود قضيّة فلسطينية يصعب التخلّص منها من دون تسوية عادلة ومعقولة تأخذ في الاعتبار وجود شعب على الخريطة السياسيّة للشرق الأوسط. القضيّة قضيّة شعب حاضر بقوّة في السياسة وباق خارج الجغرافيا. هذا أمر مخالف لكل منطق التاريخ.
من أجل التخلّص من القضيّة لا مفرّ من التخلّص من شعب بكامله. هذا مستحيل. هذا ما تجاهله بنيامين نتنياهو الذي بات مستقبله السياسي مطروحا بعدما اعتقد طويلا أن الوقت سيجعل الشعب الفلسطيني ينسى قضيّته.
ليست الانتفاضة المستمرّة منذ بضعة أيّام في القدس سوى تأكيد لحيويّة الشعب الفلسطيني ورفضه الاستسلام على الرغم من كلّ المصاعب التي يواجهها، بما في ذلك صعوبة إجراء انتخابات تشريعيّة الشهر المقبل تمهيدا لانتخابات رئاسيّة في الصيف. ليس ما يشير إلى أن محمود عبّاس (أبومازن) رئيس السلطة الوطنيّة الفلسطينية متحمّس للانتخابات. كذلك، تبدو أولويات “حماس” مختلفة عن ضرورة إجراء انتخابات تشريعية للمرّة الأولى منذ 2006. على الرغم من ذلك، ليس مستبعدا إجراء الانتخابات في موعدها، بغض النظر عن وجود جهات أميركية تدفع في اتجاه التأجيل.
بعض الهدوء والتروّي ضروريان في مثل هذه الأيّام، خصوصا أنّ التغيير لا بدّ أن يحصل فلسطينيا
كان لافتا ترافق انتفاضة القدس مع فراغين سياسيين. الأوّل إسرائيلي والآخر فلسطيني. يعبر عن الفراغ الإسرائيلي العجز عن تشكيل حكومة بعد أربع عمليات انتخابيّة في عامين. ثمّة صحف إسرائيلية تحدّثت أيضا عن فراغ أمني في القدس في ظلّ تجاذبات بين المسؤولين عن الأمن في المدينة على مستوى البلدية والشرطة ووزارة الداخليّة. فوق ذلك كلّه، يبدو واضحا أنّ القرار في إسرائيل صار في عهدة المؤسستين العسكريّة والأمنية اللتين تتولّيان إدارة كلّ ما له علاقة بالملفّ الإيراني، خصوصا في مجال التنسيق مع الجانب الأميركي وعرض الهموم والأولويات الإسرائيلية..
يتبيّن أن السنوات الطويلة التي أمضاها “بيبي” في موقع رئيس الوزراء كانت سنوات الجمود السياسي بهدف خلق أمر واقع على الأرض. لم يتغيّر شيء في رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي يتأكّد يوميا أنّه أسير معتقدات معيّنة غير قابلة للتطور. أكّدت ذلك انتفاضة القدس. عمل “بيبي” كل ما يستطيع من أجل تكريس القدس عاصمة أبديّة لإسرائيل. نجح في حمل الإدارة الأميركية السابقة على نقل السفارة من تلّ أبيب إلى القدس وفي انتزاع اعتراف منها بالمدينة كلّها عاصمة لإسرائيل. في نهاية الأحداث، تبيّن أنّه لا يزال في القدس، من سكّانها العرب، من هو مستعد لرفض الاعتراف بالأمر الواقع..
ليس معروفا ما الذي يمكن أن يفضي إليه الفراغ السياسي في إسرائيل. لكن الأكيد أن مسألة إيجاد حلّ أو تسوية مع الجانب الفلسطيني لا يمكن إلاّ أن تطرح يوما. ما العمل بثمانية ملايين فلسطيني يعيشون بين البحر والنهر، أي بين البحر المتوسّط ووادي نهر الأردن؟
عاجلا أم آجلا، سيكون على إسرائيل الإجابة عن هذا السؤال. ولكن عاجلا أم آجلا أيضا، سيكون على الفلسطينيين البحث عن قيادة مختلفة، أقلّه في الضفّة الغربيّة، في غياب القدرة على تخليص قطاع غزّة من براثن “حماس” التي تنتمي إلى الإخوان المسلمين والتي تحظى بدعم إسرائيلي لسياسة إطلاق الصواريخ وتحويل القطاع إلى سجن في الهواء الطلق لمليوني إنسان.
يُفترض في الفلسطينيين الموجودين في الضفّة الغربيّة التفكير مليّا في كيفية ملء الفراغ السياسي القائم وذلك بعدما فقد “أبومازن” أعصابه في الاجتماع الأخير للجنة المركزيّة لحركة “فتح”، مباشرة بعد إعطائه أرقاما يفهم منها تقدّم اللوائح التي يدعمها محمد دحلان وناصر القدوة على قائمة “فتح”. دفع الثمن عضو اللجنة المركزيّة عباس زكي الذي طرح فجأة ضرورة إرسال برقيّة تهنئة إلى الحزب الشيوعي الصيني في مناسبة مرور مئة سنة على تأسيسه. كانت النتيجة شتائم من النوع الثقيل أطلقها رئيس السلطة الوطنيّة الفلسطينية متناولا الصين وروسيا وأميركا و”كلّ العرب”.
وجد من يسجّل المداخلة ذات الطابع التاريخي لـ“أبو مازن”، وهي مداخلة مثيرة للضحك جرى توزيعها بشكل رسائل على “واتساب”. ظهر رئيس السلطة الوطنيّة الفلسطينية حانقا بالصوت والصورة. لم تنفع، بالتأكيد، كل المحاولات التي بذلها محيطون به لنفي حصول الحادث، علما أن الطفل الصغير يعرف أنّ هذه طريقة محمود عبّاس، وهي طريقة تهكّمية في التعاطي مع الأحداث عندما تدور الأمور لغير مصلحته ويبدو عليه الانفعال.
ليست الانتفاضة المستمرّة منذ بضعة أيّام في القدس سوى تأكيد لحيويّة الشعب الفلسطيني ورفضه الاستسلام على الرغم من كلّ المصاعب التي يواجهها
بعض الهدوء والتروّي ضروريان في مثل هذه الأيّام، خصوصا أنّ التغيير لا بدّ أن يحصل فلسطينيا. الأكيد أن مثل هذا التغيير لا يحدثه شخص مثل مروان البرغوثي الذي يمضي عقوبة في سجن إسرائيلي. البرغوثي مناضل، لكنّ النضال شيء والسياسة شيء آخر. فإذا كانت إسرائيل التي تدفع حاليا ثمن التحولات التي طرأت على مجتمعها المنقسم بين اليمين المتطرّف واليمين الأكثر تطرّفا، يبدو ضروريا أن يبحث الفلسطينيون عن شخصيات مختلفة عاقلة تتعاطى مع الأحداث التي يبدو أنّ المنطقة كلّها، وليس الضفّة الغربيّة وحدها، مقبلة عليها. أين الضرر إذا استعان الفلسطينيون بأشخاص مثل الدكتور سلام فيّاض رئيس الوزراء السابق الذي لم يتحمّله “أبومازن”. لم يتحمّله بسبب إصراره على بناء مؤسسات فلسطينية تستطيع التعاطي مع العالم الخارجي وتتمتع بحد أدنى من الشفافيّة.
ماذا بعد الفراغ الإسرائيلي والفلسطيني؟ الجواب أنّ الإدارة الأميركية ستكون مستعدّة بعد سنة، في أقلّ تقدير، لطرح مبادرات ومحاولة البحث عن تسوية استنادا إلى خيار الدولتين. ستجد إسرائيل طريقة للملمة أوضاعها الداخليّة والتخلّص من بنيامين نتنياهو وارثه بطريقة أو بأخرى. في انتظار ذلك وفي انتظار تراجع اليمين واليمين المتطرّف، من الطبيعي أن يبحث الفلسطينيون عن قيادة جديدة. قيادة تعرف مصلحة الشعب الفلسطيني، قيادة على تماس مع ما يدور في العالم والمنطقة، قيادة تأخذ في الاعتبار أن انتفاضة القدس ذات معنى. قد يكون المعنى الأوّل أن هناك شعبا فلسطينيا يمكن الرهان عليه وعلى صموده خارج “حماس” وصواريخها التي لا تخدم سوى إسرائيل.
“العرب”