لم يكُن ينقصها، محافظة دير الزّور، سِوى فيروس كورونا ليفتك بأرواح أهلها اليوم وليكتمل مشهد الدّمار الكلّيّ فيها.
دير الزّور التي يقتلها الجوع والمرض كلّ يوم، وينهب أمراء الحرب خيراتها وما تبقّى لأهلها من أموال، بالكاد تشتري لقمة العيش التي تسدّ الرّمق.
دير الزّور المدينة التي بالأمس القريب كانت خيراتها تصل إلى كلّ محافظات سورية، جائعة اليوم، وينخر في عظمها الفساد الإداري والأخلاقيّ في المدينة وريفها، على ضفّتي النّهر سواء.
فلا حالُ المدينة تحت سيطرة النّظام بخير، ولا هي كذلك على ضفّتي النّهر التي تتنازع سيادتها المليشيات الأوجلانية في شرقه، وملالي إيران وحزب الله في غربه، فالمدينة اليوم مختطفة بكاملها، منهوبة الخيرات، مسلوبة الإرادة ، محتلّة بقوّة السّلاح من غرباء ليس لهم همّ سوى تدمير البلاد والعباد.
المدينة التي لا بواكي لها، تعتبر أكثر مناطق سورية تدميراً من حيث البّنية التحتيّة والمعمار، فهناك دمار يشمل المدينة بمايزيد عن 85% من الأحياء هي مدمرة بالكامل ولا أمكانيّة لإعادة تأهيلها.
لكنّ المثير والغريب في كلّ هذا المشهد الكارثيّ المحيط بدير الزّور هو موقف قوى المعارضة، فهناك عشرات الهيئات والتّشكيلات العسكريّة والمدنيّة والمجالس الثّورية التي تدّعي تمثيل المدينة بالخارج، وتغدق على المساكين المطحونين بالدّاخل، أسمى آيات الحب والتعاطف في كل لحظة ومكان وكل مناسبة، دون أن يحركوا ساكناً تجاه العمل على تحرير المدينة من محتلّيها، أو حتّى مساعدتها بالصّمود في وجه المحتلّين وذلك أضعف الإيمان.
لقدّ مرّ على دير الزّور احتلالات كثيرة، كما هي سورية، بدءاً من الاحتلال الأسدي والحملة البربرية الشرسة التي قامت بها قطعان الذئاب الأسدية والإيرانية على المدينة مع بداية الثورة العظيمة، وسقوط آلاف الضحايا بين قتيل وجريح ومئات الآلاف من المهجرين من المدينة، لتنتقل بعد ذلك إلى احتلالات من نوع آخر، تناوب عليها جبهة النصرة في جزء من المدينة وكامل الرّيف ،ثم ليأتي بعدها وحش داعش الذي حول المدينة إلى ضباب أسود قاتل، يغطي كل بقعة من الريف إلى المدينة باستثناء جزء صغير من المربّع الأمنيّ الذي ترك عمداً، ثم لتأتي بعدها جحافل التحالف الدولي وأذنابه الصفراء بعد طرد تنظيم داعش في مارس 2019، والذي باتت معه دير الزور ترزح تحت سلطة عدة أطراف عسكرية محلية، كعصابات النظام والفرقة الرابعة المجرمة وأطراف خارجية، مثل الميليشيات الإيرانية بكافة أشكالها، والتي تسيطر على المدينة امتداداً إلى الريف وحتى الحدود العراقية على الجانب الغربي من النهر، متقاسمة السلطة مع قوات سورية الديمقراطية (PKK/PYD) والتحالف الدولي التي تسيطر على الجزء الشرقي من النهر، ولا يمكن أن نغفل سيطرة تنظيم داعش على بعض الجيوب هنا وهناك بوضعية الاستعداد للانقضاض على أي خاصرة رخوة من الجانبين .
لقد ساهم َهذا التّعدّد في القوى المسيطرة على الأرض في تأزيم الحياة المعيشية في عموم المحافظة بشكل غير مسبوق، وخلق حالة من التنافس في فرض الضرائب والأتاوات التي ترتفع حسب كل سلطة متمكّنة من الأرض، ويمكن أن نؤكد هنا بأن الفرقة الرابعة من الحرس الجمهوري بقيادة المجرم ماهر الأسد هي الأخطر والأكثر تسلّطاً على رقاب المواطنين، وهي تعد الجهة المسيطرة كلياً على أغلب المعابر والحواجز داخل دير الزور، وتحصد القيمة الأكبر من العائدات المالية والأتاوات والضرائب التي تفرضها على سكان المدن والقرى، وعلى تجارتهم اليومية، وكذلك تسمح لعصاباتها من جيش الدفاع الوطني وقوى الأمن بجمع الأموال من المواطنين بطرق غير شرعية تحت تهديد السلاح، وتمارس هذا الدور بطريقة بشعة جداً ومذلّة في تشليح المواطنين، والتشبيح عليهم بأبشع الصنوف من القهر والهوان ، ولا نستثني من ذلك باقي ميليشيات التشبيح والسرقة على طول جانب النهر الغربي ومركز المدينة، وفي نفس القطاع يمكن أن نجد أكثر من قوة تتصارع على الأرض، وتشتعل الخلافات بينها بشكل دائم، حول من يملك قرار فرض الأتاوات وجمع الأموال والحصول على أكبر قدر منها، وهذا يحدث تحت سمع ونظر القوات الروسية وتسهيلها لعمليات السطو في بعض الأحيان، في الجانب الغربي من النهر من أطراف المدينة وصولاً إلى الحدود العراقية حيث تقوى هناك سيطرة الميليشيات الإيرانية بحرسها الثوري وحزب الله العراقي ولواء فاطميون وزينبيون ،ولواء العباس والباقر .
أمّا في الجانب الشرقيّ من النّهر فلا يبدو الوضع أقلّ سوءاً من غربه، وما تمارسه الفرقة الرابعة هناك تقوم قوّات قسد بنفس الأسلوب الإرهابيّ من ناحية فرض الرسوم على البضائع التي تدخل من مناطق النظام أو المناطق الأخرى، وتزيد الرسوم المفروضة على البضائع القادمة من مناطق سيطرة النظام تبعاً لمزاج حالة التفاهم بين قسد والنظام .
ويمكن أن نلخّص – ممّا سبق- أهمّ مصدرين للأموال التي تجنيها القوى المختلفة :
الأول : وهو ما نسمّيه عقود تحصيل الضرائب والأتاوات التي تمنحها الفرقة الرابعة على المعابر الداخليّة، وتلك التي تفصل بين شرق النهر وغربه، وتبعاً لمستوى الحركة التجارية على كلّ معبر، يتمّ منح العقود لوسطاء مقرّبين من قائد الفرقة، وممّن لديهم الخبرة الكافية في عمليّات التهريب، والذين يملكون علاقات واسعة مع جميع القوى المتصارعة في المحافظة ، حتّى تطوّر الأمر، وبسبب القيمة المالية العالية لهذه التجارة قامت عصابات الفرقة الرابعة بمنح عقود لشركات أمنيّة متخصصة في حماية قوافل البضائع على الطرقات؛ لتحصيل مزيد من الأموال على مبدأ حاميها حراميها.
الأمر الثاني المهمّ، هو ما أسَرّ لي به أحد العاملين في المجال النفطيّ في دير الزّور حيث أكّد لي -وبما لا يدعو للشك- بأن عمليات استخراج النفط وتكريره تتم بالطريقة التقليدية وبواسطة حراقات بدائية، كما كانت في السنوات الأولى لخروج حقول النفط من سيطرة النظام، وأثناء سيطرة جبهة النصرة وداعش عليها، وقد قامت الإدارة الذاتية، وبعلم قوات التحالف، بمنح عقود عمليات استخراج وتكرير النفط لمتعاقدين محليين، هم أنفسهم كانوا يقومون بنفس الدور سابقاً في أثناء سيطرة داعش، والمُفاجِئُ بِالأمر –ما ذكره لي هذا الشخص- بأن العقود تقوم على تقسيم الحصص إلى ثلاث جهات، فالمقاول يحصل على الثلث، وقسد تحصل على ثلث، والثلث الأخير يذهب إلى داعش، من خلال رجالاتها الذين لايزالون يسيطرون على تجارة النفط في المنطقة الشرقية .
كلّ هذا يحدث في دير الزّور في غفلة من قوى المجتمع الدّوليّ المتصارعة على المنطقة، أو بعلمها على الأغلب، دون اتّخاذ أي إجراء يحمي مصالح المواطنين البائسين، ويتمّ كذلك نهب خيرات المحافظة بشكل ممنهج من كلّ الأطراف المشتركة في تدمير دير الزّور، والمُتضرّر الوحيد هم أبناء المنطقة المقيمين فيها.
ولكن، رغم العذابات والألم والحسرة التي يعيشها هؤلاء، ومن خلال الاتّصالات اليوميّة مع فعاليّات ونشطاء الحراك الثّوري في الداخل، نستطيع أنّ نقول إنّ النار تستعر تحت الرّماد، وقريباً ستحرق هذه النار كلّ الأيادي التي امتدّت على دير الزور، وحقّ أهلها في أرضهم. ولتحقيق ذلك لابدّ من سعي حقيقيّ لتشكيل جسم موحّد من أبناء المحافظة، ومن ثوار 2011 تحديداً، يعمل على تهيئة بيئة مناسبة على الأرض، لبناء هياكل إدارية كاملة، تتمتّع بالصدقية والقدرة العملية والعلمية، تستطيع إدارة المنطقة مدنياً تحت سلطة المُكوّن العربي، بديلاً عن عصابات قنديل، وذلك بالطرق السلميّة. وكذلك على الحراك الثوري في الداخل، ألا يهمل الخيارات الأخرى، ويستعدّ لها في حال فشل المجتمع الدّولي في تسليم المنطقة لأبنائها، وهو مَن سيتولى مهمّة “تحرير المناطق التي تقع تحت سيطرة قوات “قسد وعصابات إيران” في محافظة دير الزور، والعمل على عودة مئات آلاف المدنيين مِن أبناء المحافظة القاطنين في مخيمات الشمال السوري وداخل تركيا إلى مناطقهم.
عهدُ الثّوار قريب المنال.. ولن يسكت أبناء دير الزّور.. وسيحملون شُعلة الثّورة من جديد.
كاتب سوري- قطر
توصيف معقول لحالة غير معقولة .
تحية للكاتب. وتحية لمن ارسلها لي