لم يعبر الرئيس جو بايدن بعد عن سياساته الشرق اوسطية، ولكن دار نقاش كبير حول جهوده المفترضة للتركيز بشكل مكثف على منطقة المحيط الهادئ والصين على وجه الخصوص. ومما لا شك فيه أن شرق آسيا والصين أصبحا من أولويات الإدارة الامريكية، كما يتضح من الاستشهاد المستمر الخاصة بالتحديات المستقبلية التي ستواجه أمريكا وصياغة سياساتها الجديدة. لكن الشرق الأوسط، وهو المكان الذي أنفقت فيه الولايات المتحدة تريليونات الدولارات على مدى عقود لايزال يفرض وجوده على ساحة الأحداث. وقد يكون الصراع بين إسرائيل وحماس قد ذكّر الجميع بمدى حساسية المنطقة، لكن هذا ليس كل شيء. هناك أسباب هيكلية مهمة – بعضها قديم والعديد منها جديد- والتي من شأنها إبقاء واشنطن منشغلة كلياً في هذه المنطقة.
وعلى مدار السنوات التي عملت فيها الولايات المتحدة في المنطقة، تم قطع العديد من العهود والمواثيق مع مجموعة متنوعة من الدول. وواجهت الولايات المتحدة دائمًا صعوبات في النأي بنفسها عن الوعود التي قطعتها طالما أن الطرف الآخر لم يخالف بشكل كبير الجزء الخاص به في الاتفاقية. وفوق كل شيء تلك الالتزامات الأمنية التي تعهدت بها واشنطن.
صحيح أن الحرب الباردة قد انتهت منذ فترة طويلة، لكن المخاطر لم تختف بعد. فهناك عدد من القوى الساعية نحو التغيير منها القديم ومنها الجديد، والتي تجوب المنطقة وعلى استعداد لتحدي امريكا، بسبب أن تلك القوى ترى أن التعب والإرهاق قد نال من الولايات المتحدة ومن تواجدها ، وتحاول تلك القوى تحقيق طموحاتها في الهيمنة على المنطقة. وأبرز هذه القوى هي روسيا وإيران وتركيا وتحتل الصين مركز الصدارة.
ومن المعروف أن روسيا ليست بالوجه الجديد في المنطقة. والأمر المختلف هو أنه بينما كان السوفييت ينظرون دائمًا – أو على الأقل يبررون – سلوكهم من خلال منظور أيديولوجي، فإن روسيا الجديدة يُمثلها بوتين إلى جملة وتفصيلا، وبالتالي فهي تعكس تفضيلاته وطموحاته. ويتخيل فلاديمير بوتين نفسه وهو يدير قوة عظمى – من الواضح أن لديه أسلحة نووية وعسكرية ضخمة – وبالتالي يجب أن يؤخذ بوتين على محمل الجد. لكن الواقع مختلف تمامًا: بوتين يدير اقتصادًا يعتمد على إنتاج النفط والغاز وصادرات الأسلحة. ولم يساهم في رفاهية المجتمع البشري حول العالم. وقد بلغ الناتج المحلي الإجمالي لروسيا لعام 2020 1.7 تريليون دولار – حوالي ستة أضعاف مبيعات Apple لعام 2020 البالغة 275 مليار دولار، وللعلم فأن (صافي ثروة Apple حوالي 2.2 تريليون دولار).
و تقوم روسيا التي يقودها بوتين بنشاطين هما: الدفاع عن حلفائها، مثل سوريا وقائدها بشار الأسد، أو بذل الجهود لتقويض النفوذ الأمريكي، وهذا اسلوبها للقول “أنا مهم ، انتبه لي”. ومآبين الهجمات الإلكترونية إلى الأنظمة الداعمة التي استهدفتها واشنطن أو اعتبرتها معادية، إلى دعم الجماعات التي من المحتمل أن تقوض المصالح الأمريكية. ولا يبدو أن هناك استراتيجية روسية متماسكة بخلاف زيادة مبيعات الأسلحة. وتدعي موسكو أنها تدعم الوضع الراهن ضد تلاعبات واشنطن – وقد يكون لديها وجهة نظر، خاصة بالنظر إلى عسكرة أمريكا لسياستها الخارجية مؤخراً، خاصة في الشرق الأوسط – لكن النظام الذي تدعمه روسيا ينذر بتحالف مع كيانات غير مرحب بها.
وتُعد إيران القوة الاساسية الساعية وراء التغيير. و لا يزال نظامها الذي افرزته ثورة 1979 قائم ولم تتغير أهدافه كثيرًا منذ نشأته. وتسعى إيران لفرض رؤيتها على المنطقة بشكل كبير. وغالباُ ما تكون في وضعية دفاعية إلى حد كبير لأن الأنظمة الثورية تولد دائمًا تحالفًا للقوى يهدف إلى الحد من انتشارها وتحديها.
وتعد سلوكيات إيران دفاعية وهجومية في نفس الوقت. ففي العراق ولبنان وغزة واليمن وسوريا، على سبيل المثال لا الحصر، قامت طهران بتأسيس ورعاية وتمويل ميليشيات ذات طابع هجومي. وليس من المرجح أن تغير إيران أفعالها، بل أنها ستدفع الولايات المتحدة على البقاء متيقظة باستمرار. وغالباً سيكون هذا هو الحال بغض النظر عن نتيجة المفاوضات النووية ومستقبل خطة العمل الشاملة المشتركة. وإذا تخلت واشنطن عن حلفائها العراقيين، على سبيل المثال، فإن احتمال تغيير النظام في بغداد سيصبح احتمالًا قوياً.
أما تركيا فهي من القوى الجديدة الساعية للتغير. ووفق المنظور التقليدي فهي حليفة الناتو والولايات المتحدة. وعلى الرغم من خلافاتها العرضية مع واشنطن، فقد دعمت أنقرة الوضع الراهن في المنطقة أو امتنعت على الأقل عن القيام بأعمال تضر بمصالح أمريكا. ولكن كل ذلك تغير بشكل جذري في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي يعتبر نفسه زعيماً للمنطقة.
.
وقد عقد أردوغان النية منذ تولية الحكم قبل 19 عامًا تقريبًا، على جعل تركيا – وبالتالي نفسه – قوة عالمية كبرى. من خلال الدبلوماسية والاستخدام الذكي للخصائص الثقافية التركية، وقد أنجز الكثير في هذا السياق. ومع ذلك، بسبب عدم تحليه بالصبر قام باتخاذ إجراءات عدوانية بشكل متزايد من شرق البحر الأبيض المتوسط إلى ليبيا إلى سوريا إلى دعم الجماعات مثل الإخوان المسلمين ضد الأنظمة القائمة، وأفضى ذلك إلى نفور الكثيرين منه في المنطقة. كما أن التحول إلى الاستبداد بكل صفاقة في إدارة الشؤون الداخلية التركية ساعد في تفاقم الأمر.
وعلى الرغم من التزامات تركيا بالتحالف، إلا أن أردوغان يرى نفسه الآن في تضاد مع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وقد وصلت المشاعر المناهضة لأمريكا في تركيا إلى مستويات تصم الآذان، ويعد أردوغان مسؤولاً عن تغذية تلك المشاعر هو وحزبه والصحافة التي يهيمن عليها النظام التركي. ناهيك عن أنه فاجئ الولايات المتحدة والناتو بشرائه صواريخ روسية الصنع مضادة للطائرات من طراز S- 400 والتي تهدد الجيل الخامس من مقاتلات الحلف من طراز F-35. وأصبحت سياسته الخارجية ذات طابع عسكري بشكل متزايد ولم يمتنع عن نشر جنوده لكسب الدعم وموطئ قدم ليس فقط في الشرق الأوسط، بل وفي إفريقيا ايضاً.
والخشية من نوايا أردوغان هو أحد أسباب التي دفعت دول الخليج وإسرائيل إلى مد الجسور مع بعضها البعض، وظهور منظمات سياسية اقتصادية جديدة تربط اليونان وقبرص وإسرائيل ومصر. كما تتوقع الدول الإقليمية أن تحتوي الولايات المتحدة تركيا، حليفتها الاسمية – وهو ما يمثل تغييرًا غير عادي، بل واستثنائي لدور واشنطن.
كل هذه العوامل تشير إلى أن منطقة الشرق الأوسط لاتزال على طبق ساحن. وتلك المخاوف الخاصة بتغير المناخ والجهود المبذولة في الاستخدام المكثف للطاقة المتجددة تخلق إيحاءً بأن أيام النفط قد ولت بلا رجعة. وقد تكون تلك الإيحاءات صحيحه، لكنها لن تتحقق في القريب العاجل. حيث سيواصل نفط الشرق الأوسط دوره الرئيسي في دعم الاقتصادي العالمي. لذلك، فإن أي تهديدات تهدف إلى إنتاج وتوزيع النفط تعرض الاقتصاد العالمي للخطر.
وبالتالي، سواء شاءت ذلك أم لا، ستبقى الولايات المتحدة القوة البارزة في المنطقة. و البعض في أوروبا، مثل فرنسا، على استعداد لمواجهة القوى الساعية وراء التغيير في المنطقة، لكنهم يفتقرون إلى الامكانيات والعلاقات الامريكية.
هنري جيه باركي أستاذ العلاقات الدولية بجامعة ليهاي وزميل أول مساعد لدراسات الشرق الأوسط في مجلس العلاقات الخارجية.
“لسنديكيشن بيورو”