رحيل مزعج لشهرزاد المغربية السيوسولوجية والأكاديمية الكاسرة لسيف شهريار فاطمة المرنيسي يوم الاثنين 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 على الساعة العاشرة صباحا. كتاباتها المزعجة لسدنة الفكر المضطهد للمرأة تناولت من جوانب أنثروبولوجية وسوسيولوجية المرأة في العالم العربي والإسلامي، إلى جانب مقارباتها للمواضيع التي ظلت خطوطا حمرا في الوسط العلمي والثقافي العربي.
ظلت الراحلة فاطمة المرنيسي تنكب على تحليل أسباب الحضور القوي للنزعة الذكورية في المجتمع. في ظل وضعيات القهر التي تمارس على المرأة، من خلال إضاءاتها المعرفية المتواصلة والبحث العلمي الصرف، استطاعت أن تخوض غمار معاركها ضد التمثلات الخاطئة، التي حاولت أن تخضع المرأة لسلطانها. وقد ظلت عبر سجالاتها الفكرية تعيد قراءة الفكر الإسلامي بمقولات معاصرة تحديثية، محاولة إعادة أنسنة العلاقة المعطوبة القائمة بين الرجل والمرأة، باعتبار هذه الأخيرة مصدرا للمعرفة وليس فقط للذة، بل خصصت لموضوع الحب كتابا قدمت من خلاله ارتباط قاموس تراثنا الثقافي العربي بهذه الكلمة. كما تمحور كتابها الصادر بالفرنسية «الحب في الحضارة الإسلامية» حول نصوص عن الحب والشبق لمجموعة من الإئمة كابن حزم ابن القيم والأنطاكي والسراج وابن حجلة… وذهبت الراحلة إلى القول، إن العلماء المسلمين قدّروا عاليا هذه القيمة، من هنا رأت قوة الإسلام وجماليته.
عبر مسارها العلمي الطويل حظيت إنتاجاتها الفكرية بترجمات إلى لغات عديدة (أكثر من 30 لغة) كما نشرت دراساتها باللغتين الإنكليزية والفرنسية، إضافة إلى اللغة العربية. وساهمت أفكارها التنويرية في ربط علاقة المرأة بالعديد من القضايا كمؤسسة الزواج والعمل والمجتمع. منحت الكلمة لنساء في الظل، لأصوات من الهامش لمن لا صوت له. من القرية والمعمل والرصيف والبيت لمواطنات من الدرجة الثانية، لم يسألن من قبل عما يعتمل في أعماقهن.
فاطمة المرنيسي المتوهجة والمشرقة دائما لم تكن يوما ضد الإسلام، خلافا لما يروج عنها أصحاب القراءات المتسرعة، إنها تناضل وتفكر معرفيا من داخل النسق الثقافي الإسلامي. في أهم إصداراتها (نساء الغرب، شهرازاد تذهب غربا، الحريم السياسي النبي والنساء، الحجاب والنخبة الذكورية، ثم أطروحتها الجنس كهندسة اجتماعية) أسست نظرتها إلى الكون، وحتى لا تظل ثقافة الحريم والرق الجنسي هي المسيطرة، ذلك ان تفكيرها في قضايا المرأة هو احتجاج علمي على الكتابات التي لا تتمثل المرأة ما بين المحيط والخليج، إلا كحجاب وعورة وحريم وتحريم في ما هي تاريخيا وواقعيا أكبر بكثير من هذه النظرة الاختزالية السلبية، وعلى الرغم من هذه التركة الأخلاقية، ظلت فاطمة المرنيسي تلاحق زيف التابوهات والتصورات المشيئة للمرأة. إنها شهرزاد المغربية البسيطة والشامخة والمعتقة الرفيعة برفعة درجاتها العلمية. وهي في حد ذاتها تمثل معادلة صعبة في الثقافة المغربية المعاصرة (هذه الفاسية القحة نسبة لمدينة فاس العاصمة العلمية والروحية للمملكة المغربية) يحكم تعاملها مع موضوع المرأة، الذي يثير دائما إشكاليات. هي التي قدمت دراسات معمقة عن المرأة ومجتمع الجواري وما ملكت الأيمان عبر التاريخ. لم تكن هذه المساجلة الأسطورية مرحبا بها في المحافل السياسية بالذات سواء أكان هذا مرتبطا بالأحزاب، أم السلطة وهما معا كانا يجاملان الباحثة، التي دأبت على النبش في المسكوت عنه، هي التي كانت منشغلة بدراسة نظرة المجتمع التقليدي البطريركي والمجتمع الحداثي لبنات حواء، وكيف إنهما معا لا يريدان لهن أن يتبوأن مكانة في هرمية المجتمع، حتى لا يحققن تفردا أو زعامة، حيث ظلت النظرتان كلتاهما مسكونتين برهاب ذكوري من تفوق المجتمع النسائي. وهي لم تكن تهدف إلا إلى رؤية المرأة المغربية متعلمة وحاصلة على قدر من المعرفة، الذي يخول لها النمو الطبيعي لشخصيتها المستقلة.
كانت فاطمة المرنيسي تخاطب نخبة في المجتمع، لأنها كانت تكتب باللغة الإنكليزية والفرنسية، وهي لغة الأنتلجنسيا المغربية والعربية. وكانت تسعى إلى فضح ألاعيب السلطة على اختلاف أشكالها. لم يغفر البعض للراحلة تجاوزها للمحظور والبحث وكشف بهتان كثير مما كان يراد له أن يكون حقيقة مشاعة، مع العلم إنها كانت تحظى بمكانة خاصة في الثقافة الغربية.
الأمر الأخير ما صدر عن الداعية الإسلامي السلفي المغربي محمد فيزازي المثير للجدل ،عندما سئل عن الراحلة، وإن كان السؤال مغرضا في حد ذاته بامتياز بالقول (بأنه لا يدعو لها لا بالجنة ولا بالنار) وعلة هذا العداء ما تضمنته آراؤها من جرأة فكرية.
رحلت شهرزاد الرافضة لمجتمع الحريم والقيان ورشيشها، لم يتعطل يوما في وجه السياسي والسلفي والحداثي والمحافظ والتقليدي، وحتى اليسراوي الثورجي وكل من يمتشق سيف شهريار، وكل نخاس يتاجر في رقاب الناس. إنه الدليل الدامغ على حضورها فكرا وممارسة ضدا للموت. تضيق العبارة وتتسع الرؤية، رؤية منجز أصيل لعالمة اجتماع فوق العادة، لروح طيبة واستثنائية تحرض القارئ على الحب وعلى صناعة الخير والجمال.
كاتب مغربي
“القدس العربي”