وقبل أن يجفّ حبر مؤتمر “روما” الذي حشدت له أميركا مجموعة السبع والاتحاد
الأوروبي والمجموعة المصغّرة والأمم المتحدة والجامعة العربية، بالإضافة إلى تركيا ثانية “أستانا” وشريك “سوتشي”، وقطر ثالثة “الدوحة”، وأجمع الحضور على رفضِ واستنكار وتجريم مسعى روسيا رفضَ التمديد لآلية المساعدات الإنسانية عبر الحدود، أعلنت موسكو عقد “أستانا” 16 ليكون ردّاً جماعياً بعدما لوّحت بالفيتو في مجلس الأمن، وتعطيل إرادة أميركا، وهو –أستانا- الذي استثمرت فيه منذ 2017، بحضور إيران المنشغلة بمفاوضات ملفّها النووي، وتركيا التي أعلنت تمرّدها على الحليف الروسي، وتعرف أن موسكو استشاطت غضباً بعد توقيعها بيان ” روما “، بالإضافة لضيوف الشرف الهَزْلى “دول الجوار”، و”شهود الزور” من المعارضة السورية المرتَهنة ونظام القتل والتجويع، والحاضر المغيّب اللجنة الدولية للصليب الأحمر .
وبعد أن قالت “روما” بموقف قوي موحّد، قالت “أستانا”، إذ حدّد كل “ضامن” ما يهمّه،
فكانت الجولة بمثابة جوائز ترضية “إعلامية” لأطرافها التي تباينت مواقفهم تبعاً لمصالحهم، فتركيا ركّزت على الشمال وشرقي الفرات، وإيران أدانت الهجمات الإسرائيلية، أمّا روسيا فحديثها كان عامّاً عن القضاء على الإرهاب والسيادة السورية والاستقرار وعودة اللاجئين والإعمار وكذلك اللجنة الدستورية و”قانون قيصر”.. والجميع تجاهل الهدف لعقد الجولة16 المتمثّلة بمعركة الإغاثة والمساعدات الإنسانية عبر الحدود، والجميع تناسى انتخابات النظام اللاشرعية، والجميع نسي المعتقلين والمغيّبين ودرعا المحاصرة وقصف منطقة خفض التصعيد الأخيرة.
لقد ابتدع الروس أستانا ليكون “موازياً” مشاغباً على جنيف والقرار2254، بعد توافق
لافروف-كيري، وقد تمكّنوا من التوافق مرحلياً مع الشريكين بأن يكون نفوذهم حيثما وصلت حوافر أتباعهم في أشلاء الجغرافيا السورية، فصارت مناطق خفض التصعيد منطقة واحدة، وأخذ كل طرف يحقّق مصالحه التكتيكية في طريقه لمبتغاه الإستراتيجي، ولا بدّ أن نتذكّر حضور أميركا حتى الجولة الرابعة منه.
وفي قمّة بايدن-بوتين تمّ التوافق – وفق ما رشح- حول تجميد الملفّ السوري سياسياً، والاشتغال عليه إنسانياً وبالممرات العابرة للحدود وما بين مناطق سلطات الأمر الواقع، لتكون الخطوة فاتحة تنسيق وتعاون، وهو ما اعتُبر اختباراً أميركياً للروس، وما جعل نيبينزيا مندوب روسيا يقرّ أن القرار الروسي الأميركي ثمرة القمة، بعد إصراره على أن المطالبة بتمديد العمل بآلية المساعدات الإنسانية عبر الحدود “نِفاق أخلاقي”، وقبل أستانا أبلغ لافروف غوتيرش إصرار موسكو على الفيتو، وكان لافرنتييف رئيس الوفد الروسي يصرّ على عدم التمديد دون تعديل، وهو مَن فاوض ماكغورك الأميركي بعد جنيف وصولاً للقرار الذي صار محطّ إشادة، بينما أغفل ذكره في أستانا 16، وهو ما يؤكّد أن سورية رهن توافق أميركي- روسي، وما يظهر إكسسوارات إخراجية وحسب.
وأمّا أن أستانا صار من “لزوم ما لا يلزم”، فهو لم يأتِ بجديد في بيانه الختامي، بل جاء نسخة مطابقة لما قبله في التكاذب، وقمّة التناقض بين القول والفعل، ففي الوقت الذي يشيد بالهدوء في الشمال الغربي، كانت صواريخ روسيا وقذائف النظام تفتّت أجساد المدنيين في إدلب، وتقضي على سبل العيش الآمن. وفي الوقت الذي يعيب على أميركا سرقة النفط، تقوم روسيا بالسيطرة على حقول نفطية من الإيرانيين واستثمارها عبر وكلاء النظام، وفي الوقت الذي يرى في قسد مشروعاً تقسيمياً، تعترف به وتعمل منذ سنوات ليكون تابعاً مميّزاً مدلّلاً لتنفيذ مآربها، وهو سلاح الأميركان على الأرض، وفي الوقت الذي تبشّر العالم بالاستقرار والمصالحات جنوباً، تقوم بمحاصرة درعا، وتهدّد بإفلات قطعان الميليشيات الإيرانية لاستباحتها! وفي الوقت الذي تتشدق بمحاربة الإرهاب ينشط داعش، وتقوى وتتمدّد هيئة تحرير الشام، فلا تصيب حممها غير المدنيين في أرياف إدلب وحماة وحلب.
وأما أن أستانا لم يعد إلا للسؤال: وماذا بعد؟ فيعني بقاء القضية السورية رهن تعارض الإرادات الخارجية، فبعد ارتهان الأطراف السورية كلها لقوى إقليمية ودولية، وصلت واشنطن في التنازل حدّ المطالبة بتعديل سلوك النظام لا إسقاطه، وفتح ملفّ الكيماوي وجرائم الحرب. بينما موسكو تريد تعويم النظام بعد شرعنته بانتخابات صورية، والتطبيع العربي معه، وتطبيعه مع إسرائيل، وعقوبات قيصر، وإعادته إلى الحظيرة الدولية من باب إعادة الإعمار، لتستثمر انتصارها العسكري، وتستوفي ثمن دفعها للوجود في الساحة السورية.
وفي أن أستانا صار من عيار” شروى نقير”، فقد استقتل لتكون اللجنة الدستورية مفتاح تنفيذ القرار 2254، فتمضي خمس جولات ولم تحقّق غير خطوة في الفراغ، دفعت بيدرسون المبعوث الدولي للدعوة لطرق مقاربة جديدة لتنفيذ 2254؛ بعد المراوحة في المكان.
لقد انحسرت عباءة أستانا فاضحة سَوْءة موسكو، بعد تعارض المصالح والمناكفة والصراع بين أركانها، سرّاً وعلناً، بما يؤكّد عدم الاتفاق والتوافق، وهو ما يدعو للتساؤل الأبعد:
هل ثمّة دور بقي أن يقوم به أستانا في مسرح العبث السوري غير الإعلام بوجوده، ولو في ثلاجة الموتى؟