شهد العالم منذ بداية تسعينيات القرن الماضي مجموعة من التحولات والمتغيرات، بدأت بتفكّك الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة وسقوط جدار برلين، واندلاع حرب الخليج الثانية… وفي هذه الأجواء المفعمة بالترقب والانتظار خرج الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب، ليبشّر أن العالم يشهد نشوء «نظام دولي جديد»، حيث سعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى استثمار حالة الفراغ الاستراتيجي التي خلفتها تداعيات رحيل الاتحاد السوفياتي، بعد زهاء نصف قرن من الاستقطاب الثنائي والصراع الأيديولوجي الذي زجّ العالم في كثير من الأزمات والنزاعات العسكرية والاقتصادية والسياسية… لتفرض قطبيتها على العالم من جانب واحد، مستثمرة في ذلك الكثير من المقومات التي لم تجتمع لغيرها من القوى الدولية الكبرى.
يحيل النظام الدولي إلى دلالات متعددة، فعلاوة على كونه يعبّر عن نمط لتوزيع القوى بين الفاعلين الأساسيين في العلاقات الدولية، فإنه يحمل في بعض أوجهه إشارة لسيادة العدل ووجود ضوابط تحكم التفاعلات الدولية في إطار ثنائي أو تعددي أو أحادي القطبية.
رغم الاستئثار الأمريكي في الشأن الدولي لأكثر من عقدين، على الواجهات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية… ما زالت هناك الكثير من الأسئلة المطروحة في صدد واقع ومستقبل النظام الدولي الراهن، ومواقف القوى الدولية الكبرى منه، وما إذا كان هناك تكريس للأحادية، أم توجه نحو التعدد أو الثنائية من جديد.
إن تكريس القطبية الأحادية في هذه المرحلة المتميزة من تاريخ العلاقات الدولية أسهمت فيه الكثير من العوامل في علاقة ذلك إلى جانب توجّه الولايات المتحدة إلى فرض زعامتها من جانب واحد، بعدما استنزفتها ظروف الحرب الباردة.. في حين لم تعبر القوى الدولية الكبرى التي كانت مرشحة لكي تؤدي أدواراً طليعية في خضمّ هذه التحولات، فاليابان لم تستطع التخلص من مشاكلها الاقتصادية والمالية المتنامية، ولم تتمكن بعد من طرح تصور واضح المعالم في صدد رؤيتها للمحيط الدولي وقضاياه الحيوية.
ورغم المكتسبات الاقتصادية التي حققها الاتحاد الأوروبي في العقود الأخيرة، فإنه لم يتمكن بعد من الانسلاخ عن التبعية للولايات المتحدة الأمريكية في صدد الكثير من القضايا الدولية الراهنة، كما أنه لم يفلح في صوغ سياسة خارجية موحّدة، وهو ما عكسه التباين في صدد التعاطي مع المشكلات المالية التي لحقت الكثير من الدول الأعضاء، إضافة إلى عدم القدرة على بلورة سياسة موحّدة وبنّاءة إزاء قضايا الهجرة واللجوء التي طرحت بحدة في السنوات الأخيرة.. بينما بدأ الشرخ يصيب الاتحاد مع قرار بريطانيا الانسحاب منه في الآونة الأخيرة وتوجه الإدارة الأمريكية الجديدة إلى التخلي عن الدعم الأمني والاقتصادي لهذا التكتل الواعد بقيادة ألمانيا الموحدة.
وقد ظلّت روسيا من جهتها منشغلة لسنوات بالإشكالات السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية التي تمخضت عن تفكك الاتحاد السوفياتي، حيث تعايشت في كثير من الأحيان مع التوجهات الأمريكية حيال مختلف الأزمات والقضايا الدولية والإقليمية… قبل أن تعود إلى الساحة الدولية عبر بوابة بعض الأزمات الدولية في الفترة الأخيرة، كما هو الشأن في الأزمة السورية.
أما في ما يتعلق بالصين، فقد ظلت منشغلة بمجموعة من الأولويات الداخلية في علاقتها باسترجاع بعض الأقاليم وتعزيز مسارات التنمية الداخلية، وهي رغم توجهاتها الحثيثة نحو تعزيز مكانتها الاقتصادية على الصعيد الدولي فإن طرح قطبيتها كفاعل سياسي دولي لم يتبلور بعد بصورة واضحة[1].
ومع ذلك ثمة الكثير من الأسئلة التي تطرح حول المكانة الدولية للصين، ومدى قدرتها على التأثير في مسار النظام الدولي الراهن، وفرض قطبيتها بصورة أكثر حضوراً، وبخاصة على مستوى الانخراط في إدارة قضايا وأزمات هذا العالم المتحوّل والمتسارع.
أولاً: النظام الدولي الجديد وواقع القطبية الأمريكية
تشير الكثير من الدراسات إلى أن فكرة «النظام الدولي الجديد» ظهرت أول مرة في خمسينيات القرن المنصرم، بعدما طالبت دول العالم الثالث بإقرار نظام عالمي يسمح بتجاوز تبعات الحرب الباردة وبتوسيع قاعدة الشراكة الدولية بعيداً من كل مظاهر الهيمنة والتوتّر، وهو ما تبلّر في عدد من المقررات والتوصيات التي أصدرتها حركة عدم الانحياز على امتداد ما يربو على نصف القرن.
ويعرّف أحد الفقهاء النظام الدولي بوصفه «مجموعة من الحقائق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تحكم علاقات المجتمع الدولي بكل أشخاصه ومؤسساته وبكل الأنساق القيمية والقانونية، التي تعبر عن هذه الحقائق والتي تنظم علاقات الدول بعضها ببعض وعلاقات الدول بالمجتمع الدولي ككل وعلاقات المجتمع الدولي بالطبيعة وآليات التنفيذ لهذه العلاقات»[2].
يهدف النظام الدولي أساساً إلى تحقيق نوع من الاستقرار في العلاقات بين الدول الرئيسية فيه، لأن ذلك هو الذي يحول دون نشوب حروب شاملة، وهناك شرطان رئيسيان لتأمين ذلك[3]:
الأول أن تكون علاقات القوة بين الدول الرئيسية تتصف بالتوازن.
والثاني أن تكون هذه الدول راضية عن هذا النظام أو غير مستاءة منه على الأقل، بحيث لا تحاول دولة رئيسية تغييره بالقوة أو تغيير موازين القوة فيه لمصلحتها، أي أن يكون هذا النظام قادراً على تأمين مصالح الدول الرئيسية فيه بحيث يمكنها من تحقيق ازدهارها وقوتها.
تضاربت مواقف وآراء الباحثين والمختصين في شأن حقيقة النظام الدولي الجديد ومدى اكتمال معالمه، بين اتجاه ينكر وجود هذا النظام بالمرّة وبين مُقرّ بوجوده، بينما برز رأي ثالث حاول التوفيق بين الرأيين السابقين، ورأى أن الأمر لا يعدو أن يكون سوى تحولات تعبر عن نظام دولي يتشكّل وما زال في مراحله الأولى.
تؤكد الممارسة الدولية أن المواقف والسلوكات الخارجية للدول، تظلّ بلا معنى بل مجرّد شعارات لا قيمة لها من المنظور الاستراتيجي، في غياب مقومات مختلفة تدعمها… كما أن ترسيخ المصالح الحيوية للدول تفرض تجنيد كل الإمكانات المشروعة الداعمة لسياستها وتوجهاتها الخارجية.
يظلّ الوزن والحضور الخارجي للدول رهين طبيعة السياسة الخارجية التي تنهجها الدول، وتحيل هذه السياسة إلى السلوكات والتدابير والبرامج التي تتخذها الدول على سبيل تحقيق أهدافها في النظام الدولي، فهي تنحو إلى خلق قدر من التوازن بين التزامات الدولة وامتلاك مختلف عناصر القوة التي تسمح لها بتحقيق أهدافها وأولوياتها على المستوى الخارجي.
يربط البعض هذه السياسة بكل السلوكيات السياسية الهادفة والناجمة عن عملية التفاعل المتعلقة بعملية صنع القرار الخارجي، فالسلوك السياسي الخارجي لأية وحدة دولية هو عبارة عن حدث أو فعل ملموس تقوم به هذه الوحدة بصورة مقصودة وهادفة للتعبير عن توجهاتها في البيئة الخارجية[4]، في حين يعرفها البعض الآخر بكونها عبارة عن برنامج عمل للتحرك الخارجي يتضمن تحديداً للأهداف التي تسعى الدولة إلى تحقيقها، والمصالح التي تحرص على تأمينها وصيانتها، والوسائل والإجراءات التي تراها ملائمة لذلك، وفقاً لما تعتنقه من مبادئ ومعتقدات، ويضيف الباحث إياه أن رسم السياسة الخارجية يبدأ ببيان الأهداف التي تسعى الدولة إلى بلوغها وفق ما تؤمن به من معتقدات، وتنتهي بتحديد الوسائل والإجراءات الكفيلة بتحقيق تلك الأهداف، وتعتمد هذه العملية على عنصرين رئيسيين: المعلومات المتعلقة برسم السياسة الخارجية وصانعو تلك السياسة[5].
تتلخص آليات تنفيذ السياسة الخارجية في السبل الدبلوماسية وتوظيف الإمكانات العسكرية[6] والاقتصادية والدبلوماسية. ويشير الكثير من الباحثين إلى أن العلاقات الدولية تخضع لمجموعة من المؤثّرات والمحدّدات التي تتحكّم في قوّة حضور الدول وفاعلية سلوكاتها في هذا الصدد، وهي عوامل تتنوع بين مقومات داخلية وأخرى خارجية.
فعلى المستوى الداخلي، يمكن الإشارة إلى حجم إقليم الدولة وتنوعه إضافة إلى عدد سكانها في تحديد سلوكاتها الخارجية، فالإقليم بمكوناته الطبيعية[7] والمناخية والمعدنية وتنوعه بين جبال وسهول ووديان وبحار، يمثّل عامل قوة لهذه الدول بمنظور الجيوبوليتيكا، والأمر نفسه يمكن أن يقال بالنسبة إلى عدد السّكان وما ينطوي عليه من نخب وكفاءات وعمالة، وتنوع مجتمعي بما يمثّله ذلك من ثراء ودعم لوحدة الدولة وقوتها في حال استثمار هذا المكوّن بصورة سليمة وبنّاءة.
كما لا تُخفى أهمية طبيعة النظام السياسي القائم داخل الدولة في هذا الشأن، ذلك بأن الاستقرار السياسي ودينامية المؤسسات، ووجود هامش من الحرية واحترام حقوق الإنسان، تدعم حضور هذه السياسة ونجاعتها أيضاً.
وعلى المستوى الخارجي، هناك العامل الاقتصادي بما يحيل إليه ذلك من صناعات متطورة في مستوى التنافسية الدولية، حيث تزايد حضور وأهمية هذا المقوّم في العلاقات الدولية خلال العقود الأخيرة، وأضحى أحد العناصر المهمة التي تحدّد سلوك الدول وحضورها، في عالم متشابك مبني على تبادل المصالح.
كما أن التطورات التقانية المذهلة أفرزت واقعاً دولياً جديداً سمح للدول المالكة لمقومات هذه التقانة لأن تكون مؤثرة، وخصوصاً مع تزايد استثمار هذه الأخيرة في المجالات العسكرية والتواصلية مع المحيط الخارجي والتأثير في الرأي العام الدولي وتوجيهه.
ولا تخفى أيضاً أهمية القوة العسكرية في هذا الصدد، ورغم أنها لم تعد في الأهمية والمركزية نفسيهما اللتين كانت عليهما في الماضي، إلا أنها ما زالت محدداً مهماً وأساسياً في تحديد الحضور المؤثر للدول خارجياً، فهذه القوة هي التي تدعم سيادة الدول وتضمن حمايتها من كل الأخطار الخارجية، بل إن امتلاك أسلحة استراتيجية طالما مثّل مدخـلاً لتحقيق السلم في العلاقات الدولية عبر أسلوب الردع الذي يحيل إلى امتلاك القوة العسكرية بالصورة التي تجعل الخصم يتردد في السبق بالاعتداء.
وتشير الممارسات الدولية إلى أن أهمية القوة العسكرية لا تكمن في مجرّد امتلاكها فقط، ولكن في حسن توظيفها في الأداء الدبلوماسي للدول، وفي المفاوضات المختلفة، وفي تحقيق السلم والأمن الدوليين أيضاً.
وعموماً يمكن القول إن مفهوم القوة في حقل العلاقات الدولية عرف تطوراً كبيراً، بموازاة مختلف التحولات والتطورات شهدها العالم؛ فبعدما ظلّ يقتصر على العوامل العسكرية والجغرافية والبشرية، ثم الاقتصادية في مرحلة لاحقة، انضافت إليه عوامل أخرى أكثر حيوية وأهمية من قبيل اعتماد التقانة الحديثة واكتساب المعلومات، والحضور الدبلوماسي الدولي، وفاعلية المؤسسات السياسية.
بعد سقوط الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة وما نتج من ذلك من غياب منافس قوي وعنيد، خلا الجوّ للولايات المتحدة الأمريكية لتبسط هيمنتها على الشؤون العالمية، وتعلن قيادتها وزعامتها لهذا العالم المتحوّل.
ولم تكد تمر سوى سنوات قليلة، حتى وضعت هذه الزّعامة محلّ تساؤل الكثير من الباحثين والمهتمين حول مدى قدرة هذه الدولة على الصمود باتجاه تثبيت وتدعيم زعامتها أمام ظهور مجموعة من التحديات والإكراهات، وتصاعد أدوار بعض القوى الدولية الكبرى.
والظاهر أن هناك إمكانات ومقومات فريدة، عسكرية وسياسية وثقافية واقتصادية مدعمة بقدرات تقانية هائلة وكفاءات بشرية مدرّبة ومتطورة، مستندة إلى مؤسسات سياسية وقانونية داخلية قوية وفعّالة، إضافة إلى إمكانات إعلامية واسعة ومؤثرة، اجتمعت لدى الولايات المتحدة بصورة استثنائية، وهو ما أسهم بصورة جلية في تثبيت حضورها الدولي الوازن والفاعل، واستفرادها بتدبير الشؤون الدولية في تجلياتها المختلفة.
وضمن هذا السياق، وباستحضار أهمية العامل العسكري، تخصّص هذه الدولة ميزانية سنوية كبيرة لاستثمارها في هذا المجال، وقد استطاعت بذلك أن تراكم ترسانة عسكرية ضخمة كمّاً ونوعاً، بدءاً بالأسلحة التقليدية ثم النووية، وصولاً إلى الأنظمة الدفاعية المتطورة، وهو أهلها لتكون أكبر قوة عسكرية في العالم.
ومعلوم أن أهمية العنصر العسكري كمقوم للزّعامة وبسط الهيمنة، لا يتأتّى عبر امتلاك هذه الإمكانات فقط، ولكن من خلال استثمار وتوظيف هذه القدرات في تحقيق المصالح وتدبير قضايا وأزمات دولية وإقليمية بصورة مباشرة أو غير مباشرة (عبر سياسة الردع)، وهو ما تنفرد به الولايات المتحدة الأمريكية إلى حد الآن مقابلة بعدد من القوى الدولية الكبرى، ذلك بأن امتلاك روسيا مثـلاً إمكانات عسكرية كبيرة، لا يعني بالضرورة أنها أضحت طرفاً مركزياً في العلاقات الدولية قادراً على تحقيق التوازن الدولي، كما هو الشأن بالنسبة إلى الاتحاد السوفياتي المنهار.
وعلى الصعيد الاقتصادي، فهذه الدولة التي تملك إمكانات زراعية وصناعية وخدماتية كبيرة، فهي توظّف شركاتها العملاقة، وتستثمر بعض المؤسسات الاقتصادية العالمية التي تسيطر عليها كمنظمة التجارة العالمية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، في تدعيم وتفعيل مواقفها وسياساتها على الصعيد الدولي.
وعلى مستوى الحضور الدبلوماسي والسياسي على امتداد مناطق مختلفة من العالم، فهو حضور فعّال منذ نهاية الحرب الباردة، تعزَّز مع حرب الخليج الثانية، وتأكد في عدة أزمات وقضايا دولية متعددة أخرى، وبخاصة مع توجه هذه الدولة نحو توظيف مجلس الأمن بصورة غير مسبوقة في تكريس مصالحها وفرض منطقها في تدبير عدد من الأزمات والقضايا الدولية.
ومنذ زوال القطبية الثنائية، حرصت هذه الدولة على ترسيخ «نظام دولي جديد» بشّرت به في بداية التسعينيات من القرن الماضي، كونه يضمن لها تبوؤ مركز القيادة الدولية، مستثمرة في ذلك كل هذه الإمكانات المتاحة.
ففي الحادي عشر من أيلول/سبتمبر من عام 1990 وفي أجواء انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة، وفي خضمّ تصاعد أزمة الخليج الثانية وما تلا ذلك من انتشار مكثف وحاشد للقوات الأمريكية في منطقة الخليج، أعلن الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب، أن العالم يشهد بروز «نظام دولي جديد» مبني على التعاون والإخاء واحترام الديمقراطية وحقوق الإنسان ومواجهة الأخطار المحدقة بالسلم والأمن الدوليين، وخالٍ من «الإرهاب» وتؤدي فيه الأمم المتحدة دوراً بارزاً وفعّالاً، «يكون العالم فيه أقوى في البحث عن العدالة، وأوثق في نشر السلام، عصر تكون فيه أمم العالم شرقاً وغرباً جنوباً وشمالاً، تحيى في رفاهية وانسجام»[8].
أسهم الغياب الملحوظ لمنافسين أقوياء، في تزايد تكريس هذه الزعامة ميدانياً لسنوات متعددة، فاليابان التي لم تستطع التخلص بعد من مشاكلها الاقتصادية والمالية، تفتقد تصوراً أو استراتيجيةً تدعم حضورها كقطب دولي وازن، أما الاتحاد الأوروبي، وعلى الرغم من إنجازاته الكبرى، فهو ما زال يعاني بعض المشاكل الداخلية، ولم يتمكن بعد من بلورة سياسة خارجية موحدة إزاء قضايا دولية وجهوية متعددة. بينما انشغلت روسيا بدورها بالمشاكل التي أفرزتها المرحلة الانتقالية، بمختلف مظاهرها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية رغم بعض التحركات والمواقف المرحلية.
أما الصين فقد انشغلت لعقود بقضايا داخلية واستراتيجية أكثر أهمية وأولوية، ويبدو أنها ظلت ترفض المجازفة بالدخول في منافسة استراتيجية مع الولايات المتحدة بالنظر إلى التكلفة التي ستترتب على ذلك بما يستنزف قدراتها، مستفيدة في ذلك من التجربة السوفياتية السابقة في هذا الصدد، رغم استفزازها من قبل الولايات المتحدة في كثير من المحطات (تعزيز القدرات العسكرية لتايوان، وخرق المجال الجوي الصيني في استطلاعات تجسّسية…)، حيث فضّلت المهادنة والمرونة، على نحوٍ يوحي بأن الموعد المناسب لفرض قطبيتها على نحوٍ فاعل وقوي لم يحن بعد[9].
رغم توافر مجموعة من المؤهلات التي تمنح الولايات المتحدة مكانة متميزة ورائدة في المجتمع الدولي، فإن هناك عدداً من الإكراهات والتحديات التي تواجهها على نحوٍ جدي في هذا الشأن.
فعلى الصعيد الداخلي، بدأت تعتري الاقتصاد الأمريكي في السنوات الأخيرة عدة صعوبات من بينها الركود، إضافةً إلى الخطر الذي يفرضه تحدي نضوب مصادر الطاقة بهذا البلد، كما تراجعت نسبة ما قدّمته هذه الدولة من معارف وتقانة جديدة إلى العالم.
أما على الصعيد الخارجي، فقد لوحظ في السنوات الأخيرة أن هناك سعياً حثيثاً لدى بعض الدول لتأكيد حضورها الدولي، فالصين تعرف تطوراً اقتصادياً مهماً تشهد عليه معدلات النمو القياسية التي فاقت كل التوقعات، بينما بدأت روسيا تتعافى من مشكلاتها الداخلية، وأصبحت تسعى من حين إلى آخر إلى تأدية أدوار متزايدة على الصعيدين الإقليمي(منطقة شرق أوروبا) والدولي (الأزمة السورية).
وعلى الجانب العسكري، تزايدت التحدّيات أيضاً، فهناك الكثير من الدول التي تمتلك ترسانة عسكرية مهمة ومتطورة، بينما تمكنت عدة دول من اختراق النادي النووي، كالهند وباكستان وكوريا الشمالية، وتسعى دول أخرى بإصرار شديد إلى امتلاك وتطوير ترسانتها التقليدية والاستراتيجية (أنظمة الصواريخ المتطورة، الأسلحة النووية…) كإيران.
وعموماً فالترسانة العسكرية الضخمة التي تمتلكها الولايات المتحدة لم تكن يوماً كفيلة بحماية الدول والإمبراطوريات من مخاطر الانهيار وضامنة لبقائها، وفي النموذج السوفياتي دليل قوي على ذلك.
وعلى الصعيدين السياسي والدبلوماسي، فإن إقدام هذه الدولة على ممارسة بعض التدخلات المنحرفة في مناطق مختلفة، واستثمار مجلس الأمن على نحوٍ منحرف في كثير من الأحيان، في سبيل تحقيق أهداف ومصالح خاصة، وعدم توقيع الكثير من المعاهدات والاتفاقيات الدولية المرتبطة بمجالات مهمة (نذكر ضمن هذا السياق، عدم توقيع بروتوكول كيوتو، ومعارضة إنشاء المحكمة الجنائية الدولية الدائمة وكذا الانسحاب من مؤتمر دوربان حول التمييز العنصري…)، كلّها عوامل تؤجج الرفض الدولي لهذه الزعامة.
كانت الأحداث الإرهابية للحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، محطّة للتساؤل حول مستقبل القطبية الأمريكية، وحول مدى قدرة هذه الدولة على مواجهة التحديات والمخاطر غير الدولتية التي أصبح يفرضها عالم اليوم، وبخاصة على مستوى تطور الإرهاب وتصاعده… و«رغم أن هذه الهجمات أجّلت تنفيذ الاستراتيجية الأمريكية تجاه الصّين، لمصلحة هدف القضاء على ما سمي «الإرهاب» وإسقاط صدام حسين، فإن واشنطن كانت تتابع بدقة الصعود الصيني المتزايد في قدراته العسكرية، ومحاولات بكّين زيادة نفوذها الاقتصادي في جنوب شرق آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، والذي استهدف بالأساس تأمين احتياجاتها من النفط»[10].
كما لا تخفى التداعيات التي خلفتها الأزمة المالية الأخيرة على النظام الدولي الراهن برمته، وبخاصة على خلخلة المقومات الاقتصادية للقطب الأمريكي وعدد من القوى الغربية… وهي المحطة التي برزت فيها القوة الاقتصادية المتنامية للصين.
ويشير البعض إلى أنه ليس من المبالغة القول إن «واشنطن» تعيش تخوفاً مستمراً من تنامي التنافسية الصينية، بل من استئثارها بوضع القوة العالمية الأولى في الأمد القريب[11].
عاد موضوع مستقبل الزعامة الأمريكية ليطرح على واجهة الأحداث الدولية بقوة في الآونة الأخيرة، مع وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ورفعه شعار «أمريكا أولاً»، بعدما رأى أن الحضور الأمريكي على الساحة الدولية أصبح مكلفاً وتعتريه الكثير من التحديات.
وفي ضوء هذه المتغيرات، تطرح الكثير من الأسئلة حول معالم النظام الدولي في المستقبل القريب، وما إذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية ستحافظ على ريادتها داخل هذا النظام، أم أنه سيتحول إلى نظام تعددي يفتح معه المجال أمام لاعبين دوليين جدد.
ثمة الكثير من الدراسات والأبحاث الأكاديمية التي ترى أن السلم والأمن الدوليين لا يتحقّقان مع تكريس الأحادية القطبية التي تفرض منطقها في توجيه الأحداث وتدبير القضايا وخدمة المصالح الخاصة، وتؤكّد أن السعي لخلق قدر من التوازن في العلاقات الدولية وفتح المجال أمام أقطاب متعدّدة لتؤدي أدواراً طليعية في هذا الصدد، يمكن أن يسهم في تجاوز الإكراهات والانحرافات التي تصيب عمل الأمم المتحدة والاقتصار على تطبيق القانون الدولي في مواجهة الدول الضعيفة، بما يعزز الاستقرار والسّلم العالميين مستقبـلاً.
إن تبوّؤ مكانة فاعلة في النظام الدولي مشروط بوجود إرادة سياسية في هذا الخصوص، وباعتماد الاستقلالية والرؤية الاستراتيجية في اتخاذ القرارات والمبادرات الخارجية، وامتلاك مقومات الريادة وحسن توظيفها خدمة للأهداف المتوخاة، علاوة على اعتماد سياسات مبادرة تتجاوز الانكفاء والحياد.
حقيقةً، إن الصين، بإمكاناتها البشرية والاقتصادية وبمقوماتها الطبيعية والاستراتيجية، شهدت تحولات إصلاحية كبرى منذ سبعينيات القرن الماضي، سمحت لها بتحقيق التنمية وتعزيز وضعها الاقتصادي وانفتاحها على محيطها المتغيّر بصورة سلسة. غير أن الهدوء والتدرج ما زالا يطبعان تحركها الدولي، ذلك بأن حرصها على تحقيق أولوياتها الكبرى، جعلها في الكثير من المناسبات تتبنّى مواقف دوليّة مهادنة وغير صدامية، وهو ما يعكسه موقفها داخل مجلس الأمن من حرب الخليج الثانية، ومساهمتها في مكافحة الإرهاب وقضايا الطاقة والحد من انتشار الأسلحة النووية والتلوث البيئي والأزمات الاقتصادية والمالية الدوليين.
تشير الممارسات الدولية إلى إن الواقع الدولي الراهن ما زال مرشحاً للتفاعل والتطور، كما أن انفراد الولايات المتحدة بالشأن الدولي يظلّ مرحلياً، نظراً إلى ما تعرفه الساحة الدولية من إشكالات وانحرافات على مستوى تطبيقات قواعد القانون الدولي أو إرساء نظام عالمي واضح المعالم، وهو ما يؤكد أن مكانة الصين كقطب دولي وازن، تفرض نفسها بقوة في المرحلة الراهنة، وخصوصاً أن هناك إقراراً من القوى الدولية الكبرى كالولايات المتحدة الأمريكية نفسها والاتحاد الأوروبي… بأهمية الصين كفاعل دولي وازن ومؤثّر وبضرورة دمجها في المؤسسات الدولية القائمة.