اثارت مذكرة توقيف رئيس السودان عمر حسن احمد البشير التي اصدرتها محكمة الجنايات الدولية في لاهاي قبل اسابيع موجة احتجاجات واسعة في الشارعين العربي والاسلامي المحتقنين اساساً ضد كل ما هو دولي بسبب الانتقائية التي اعتمدتها المؤسسات الدولية ولا تزال في معالجة المشكلات العالمية وبسبب انحيازها الاعمى الى اسرائيل لدى محاولة معالجة ازمة الشرق الاوسط بجوهرها الذي هو الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي او على الاقل بسبب ادعائها ممارسة الحياد والمساواة في معالجة هذه الازمة. والموقفان ظالمان لان لا حياد بين الجاني والمجنى عليه. والمجنى عليه هو شعب فلسطين ومنذ عام 1948، وسيبقى كذلك وان ارتكب افراد فيه ومنظمات جنايات في حق "اسرائيليين" لان جناياته هذه فردية قياساً على الجناية العامة او الجماعية التي ارتكبتها اسرائيل في حقه. والموقفان ظالمان ايضاً لان لا مساواة بين الجاني والمجنى عليه وخصوصاً ان مهمة المؤسسات الدولية على أنواعها هي الدفاع عن الحق ونصرة المظلوم.
وأثارت المذكرة نفسها موجة احتجاجات واسعة في اوساط الانظمة العربية وبعض الانظمة الاسلامية على تنوعها وتناقضها. والدافع اليها ربما كان انتقاد التدخل الدولي في شؤون السودان والتدخل الاسرائيلي – الاميركي في شؤونه ومحاولة اصحابه انطلاقاً منه اعادة ترتيب اوضاع المنطقة الافريقية التي يقع فيها السودان. الا انه في الوقت نفسه كان خشية هذه الانظمة التي لكل منها مشكلة مع شعبها او "شعوبها" ان يكون توقيف الرئيس السوداني سابقة يمكن تكرارها مع قادة عرب آخرين في حال نشوء ظروف مماثلة في مأسويتها للظروف الراهنة في السودان. والموجتان المذكورتان اعلاه من الاحتجاجات مشروعتان. لكن الطريقة التي يواجه بها البشير وسودانه وكذلك اخوانه من القادة العرب من المحيط الى الخليج، وإن مع تفاوت في نسبة الاحتجاج وحدته، لا يمكن ان تؤمن حلاً للمشكلة السودانية الحالية. فبعض هؤلاء ميّز في مواقفه بين الشرعية الوطنية لكل دولة عربية والشرعية الدولية التي تمثلها الامم المتحدة ومجلس امنها وسائر مؤسساتها بما فيها القضاء الدولي وفي مقدمه محكمة الجنايات الدولية. ودعا الى خص الشرعية الوطنية بالاولوية على الدولية. واذا فعلت ذلك غالبية الدول تنهار المؤسسات الدولية وعلى رأسها الامم المتحدة التي ساهمت في المحافظة على السلام العالمي اكثر من مرة منذ انشائها قبل عقود كثيرة رغم اخفاقها مرات عدة في معالجة مشكلات دولية واقليمية مهمة وفي معاقبة المعتدي واعطاء صاحب الحق حقه. علماً ان هذا الاخفاق نجم في معظمه عن تغليب الدول وخصوصاً الكبرى شرعياتها الوطنية على الشرعية الدولية ومصالحها الوطنية واحياناً مصالح نظامها على المصالح الدولية التي يفترض انها عامة.
الى ذلك هناك سؤال "شرعي" لا بد من طرحه وهو من يحدد الشرعية الوطنية في كل دولة؟ والجواب المبدئي هو النظام الحاكم فيها. والاسئلة التي يدفع هذا الجواب الى طرحها هي: هل ان الدول بانظمتها المعروفة التي تعترض اليوم على مذكرة توقيف الرئيس السوداني شرعية؟ وما هي الشرعية؟ وما هو مصدرها؟ وهل الشعب الذي كان وسيبقى دائماً مصدر شرعية كل الانظمة هو الذي اختار الانظمة الحاكمة في العالم العربي او معظمها؟ ام ان القوات المسلحة في بعضها نابت عنه وامسكت بالسلطة وحكمته. وحددت وفقاً للانظمة التي اسست شرعية لها قد لا تتوافق فعلاً مع الشرعية الشعبية والوطنية رغم رفعها شعارات تستهوي الناس وعجزها في الوقت نفسه عن تنفيذها او احجامها عن ذلك طوعاً لاسباب متنوعة؟ ام ان الملكيات المطلقة التي لا مجال للحريات فيها تمثل الشرعية الوطنية الحقيقية؟ والبعض الاخر من الانظمة العربية وقادتها دعا المؤسسات الدولية ومنها محكمة الجنايات الدولية الى محاسبة اسرائيل على مجازرها في فلسطين ولبنان وغيرهما قبل محاسبة السودان. ومع ان في هذه الدعوة اعترافاً ضمنياً بان الحكم السوداني "ارتكب" الكثير في بلاده وخصوصاً في دارفور فان اشتراطها محاسبة اسرائيل اولا يعكس رغبة في انقاذ البشير ونظامه لان اصحابها يعرفون ان اسرائيل عصيّة على المحاسبة لاسباب يُسأل عنها المجتمع الدولي كما يُسأل عنها العرب انفسهم. والم يكن اجدى لأصحاب هذه الدعوة ان يقولوا: نربط تسليم البشير او الموافقة على تسليمه بمذكرة توقيف اسرائيلي بسبب مجازر غزة وقبلها لبنان او على الاقل بتحقيق جدي وسريع في هذه المجازر؟ علما ان اصحاب الدعوة الثانية يؤكدون بدعوتهم ما بات يعرفه الجميع في العالم العربي والعالم وهو ان شعب فلسطين وقضيته صارا طوق نجاة وبقاء لكل الانظمة العربية. اذ يبقى كل شيء مسموحا لها وإن مخالفاً للقوانين الوضعية والدينية والالهية والوطنية والدولية لانها تحاول انقاذ فلسطين واستعادة حقوق شعبها. علما ان هذه صارت "نكتة" سمجة لا يصدقها احد.
في النهاية ان منطق احدى الدعوتين المفصلتين اعلاه يبرر لاسرائيل على نحو غير مباشر ما تقوم به من اجرام. فهي في نظر معظم دول العالم، ومنها دول عربية، دولة معترف بها وجزء من المجتمع الدولي وتالياً تتمتع بالشرعية الوطنية التي تستغلها لارتكاب ابشع المجازر واقسى الاعتداءات في حق الفلسطينيين والعرب. وهؤلاء يستنجدون بالشرعية الدولية لانقاذ الفلسطينيين منها. لكن اذا تمسك العرب او بعضهم بتغليب الشرعية الوطنية على الدولية فانهم يكونون اعطوا اسرائيل حقاً في كل ما تقوم به.
ما الحل؟
طبعاً نحن لسنا هواة تمكين المجتمع الدولي "المسيّس" غالباً ضد العرب وقضاياهم من النيل من العرب ودولهم وانظمتهم على "لاشرعية" بعضها. وعذراً لاستعمال هذه الكلمة، لكن مواجهته تكون برفع الظلم عن المواطنين في الدول المذكورة عرباً كانوا أو غير عرب ومسلمين أو غير مسلمين وسنة أو شيعة وسمراً أو زنوجاً أو بيضاً وبالامتناع عن التمييز بينهم في المعاملة اي في الحقوق والواجبات. فقط اذا فعلوا ذلك يستطيعون ان يتحدثوا عن المبادىء التي يكثرون في الحديث عنها منذ اسابيع.
سركيس نعوم
sarkis.naoum@annahar.com.lb