تبدو سورية على وشك مجابهة أزمة غذاء غير مسبوقة خلال سنوات الحرب، والأسوأ من ذلك أن هذه الظاهرة قد تكون مزمنة إذا لم تُطرح حلول تساعد على تعافي الاقتصاد السوري. فقد أعلن برنامج الأغذية العالمي في فبراير الماضي أن 12.4 مليون سوري يعانون من انعدام الأمن الغذائي، و60% من السكان لا يعلمون ما سيأكلون في الغد، وأن عدد المفتقدين للأمن الغذائي في سورية زادوا في عام واحد فقط إلى 4 ملايين ونصف شخص. كما أعلن برنامج الأغذية أن 1.3 مليون سوري يواجهون انعدام أمن غذائي حاد، وأن 1.8 مليون سوري قد ينزلقون في هذه الهاوية إذا لم تتحسن الأمور.
من الحرب إلى المجاعة
هذه الأرقام المقلقة هي نتيجة عوامل كثيرة، وبشكل خاص بسبب تراجع أداء الاقتصاد السوري بشكل كبير بسبب الحرب وتداعياتها. وبعد تراجُع حدة المعارك وطغيان الهدوء على معظم خطوط الجبهات الداخلية، تَبين خطأُ الاعتقاد أن المرحلة الأقسى من المأساة قد أصبحت خلف السوريين مع ظهور شدة الأزمة الاقتصادية وانعكاساتها شديد التأثير على المواطنين، والتي تبدو مقبلة على مرحلة جديدة يمكن وصفها بالمجاعة التي لن تكون أخف وطأة من الحرب مع الجفاف وانخفاض منسوب مياه نهر الفرات، والتراجع الحاد لإنتاجية محصول القمح هذه السنة.
وأدى عقد كامل من الحرب، وخاصًة بعد التدهور الاقتصادي الحاد في السنتين الماضيتين، إلى تدهور كبير في القوة الشرائية عند المواطن البسيط في كل مناطق سورية، وخاصةً في مناطق النظام. والتدهور الاقتصادي له أسباب كثيرة ومعقدة، منها أثر الحرب المدمر، وهجرة رؤوس الأموال، والعقوبات الاقتصادية على سورية وتأثيراتها الجانبية، بالإضافة إلى تأثير جائحة كورونا، وانهيار اقتصاد لبنان الذي لطالما كان منفذاً للالتفاف على العقوبات الغربية؛ كل هذه العوامل وغيرها جعلت كلفة المستلزمات البسيطة عاليةً بالنسبة لأغلبية السكان. فعلى سبيل المثال، بحسب إحصاءات برنامج الغذاء العالمي فإن عائلة مكونة من خمسة أشخاص يحتاجون إلى 175 ألف ليرة سورية لتلبية حاجة غذائهم، بينما يبلغ الحد الأدنى للراتب الحكومي 47 ألف ليرة، والأعلى 80 ألف ليرة سورية.
وإضافة إلى تدهور قدرة المواطن الشرائية، هناك نقص في بعض المواد التي تُعد استراتيجية في الحفاظ على الأمن الغذائي مثل القمح. فبعد أكثر من شهر على أزمة الانخفاض الحاد لمستوى مياه نهر الفرات في سورية، بسبب الإجراءات التركية أحادية الجانب وموجة الجفاف القاسية، تبدو إنتاجية محصول استراتيجي كالقمح منخفضةً على نحو خطر يهدد الأمن الغذائي للسكان في سورية على نحو غير مسبوق. وقد أسهم الانهيار الاقتصادي، وتبعاته من ارتفاع أسعار الوقود وانخفاض مستويات التغذية بالطاقة الكهربائية، في تراجع قدرة المزارعين على تشغيل مضخات سحب المياه والضخ للري، أما انهيار سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار فقد ساهم في رفع كلفة الأسمدة والأدوية الزراعية، ما أضعف الإنتاجية وترك المجال مفتوحاً أمام الأمراض الزراعية والحشرات المضرة.
فشل حملة “عام القمح”
تَنبَّه النظام السوري إلى الخطر القادِم، ما دفعه إلى إطلاق حملة “عام القمح” منذ مدة، لكن الظروف والمقدرات المتوفرة أظهرت فشل الحملة، فبدل توقع إنتاج مليون طن من القمح يبدو أن الإنتاج الفعلي سيكون في حدود 400 ألف طن كحد أعلى، وخاصة مع تأثير الجفاف على أغلب المحافظات السورية، بدل محافظة أو اثنتين كما كان يحدث في السابق بحسب وزير الزراعة السوري، ما أدى في المحصلة إلى خسارة قرابة 90% من المحاصيل المزروعة بعلاً، في حين تأثرت الزراعات المروية بالانخفاض الكبير لمستوى المياه في نهر الفرات وبحيرات السدود المقامة عليه.
ومع التنافس على شراء محاصيل القمح بين النظام السوري والإدارة الذاتية الكردية، حتى خلال الموسم الماضي الذي لم يشهد جفافاً، تظهر حقيقة أن تهديد الأمن الغذائي للسوريين يمس أولئك المقيمين في مناطق النظام السوري أيضاً، إذ تحتاج مناطق النظام إلى نحو 200 ألف طن من القمح كل شهر بقيمة 400 ألف دولار. وبناءً على هذه المعطيات، وعلى عدم توافر التمويل اللازم لدى النظام السوري لاستيراد ما يكفي من القمح، يبدو أن أزمة الخبز التي شهدها السوريون قبل أشهر ستعود من جديد، وعلى نحو يرجح أن يكون أقوى وأطول مدة، ويرجح أن تطول الأزمة مع تعبير مزارعين عديدين عن رغبتهم في الإحجام عن الزراعة بعد أن مُنيوا بخسائر كبيرة هذا العام، أو التحول إلى زراعات أخرى أقل خطورة، مثل حبة البركة والكزبرة وغيرها، التي لا تدخل في حسابات الأمن الغذائي والطعام اليومي على موائد السوريين.
طَرْق البوابة الروسية
من حيث الحلول، لا يبدو من حل أمام النظام السوري إلا طرق البوابة الروسية لاستيراد كميات أكبر من القمح لسد الحاجة. وقال سفير روسيا في دمشق إن بلاده ستزود سورية بمليون طن من القمح حتى نهاية السنة. لكن، وفي ظل واقع عدم توافر التمويل اللازم، قد يكون من المتوقع تقديم تنازلات أخرى استثمارية للجانب الروسي كتلك الحاصلة سابقاً.
وتجدر الإشارة هنا، إلى أنه برغم الدور الكبير للجفاف في الأزمة الحالية، إلا أن موسماً من الجفاف كل بضعة سنوات أمرٌ يمكن تخطيه كما في السابق لو كان الاقتصاد السوري في عافية جيدة. ولكن الهشاشة البالغة حالياً لهذا الاقتصاد جراء سنوات الحرب الطويلة والعقوبات بحق النظام وتأثيرات جائحة كورونا والانهيار في لبنان المجاور، مثلت كلها تراكماً للأسباب التي جاء الجفاف ليُتوجها.
وحتى من دون الجفاف فإن رقعة الأراضي الزراعية في سورية في حالة تراجع عاماً عقب الآخر، لأسباب متعلقة بالحالة الأمنية في السنوات السابقة، بالإضافة أيضاً إلى الحالة الاقتصادية، وخاصة خلال السنوات الأخيرة، ما يُظهر الدور الأساسي لتراجع الاقتصاد بشكل عام في تراجع الإنتاجية الزراعية. وعليه، يمكن الاستنتاج أن أيَّ هزة جديدة تطول الاقتصاد السوري -شديد الضعف- ستنعكس على نحو مباشر وفوري على الأمن الغذائي للسوريين، ليتحولوا أكثر فأكثر ليكونوا تحت رحمة المساعدات الدولية وروسيا.
_____
مركز الإمارات للسياسات