أعلن النظامُ السوري، بعد نهاية الانتخابات الرئاسية التي جرت في 26 مايو 2021، عن جملة من الأولويات التي سيعمل عليها خلال المرحلة المقبلة، وتضمنت بنوداً عسكرية وتنموية ودبلوماسية يجد النظام أنها تُشكّل مخارج للأزمة السورية. ويتطلَّب تحقيق هذه الأولويات مواردَ وتكاليف عالية، ومرونة سياسية، أو تعاطياً سياسياً ودبلوماسياً بشكل مختلف عن السابق، وهو ما يثير التساؤلات عن قدرة النظام على توفير الظروف المناسبة لإنجاز أولوياته.
تُسلِّط هذه الورقة الضوء على أولويات النظام السوري في المرحلة المقبلة، وتناقش قدرته على تحقيقها.
الأسد بعد الانتخابات: الأولويات والعوائق
أثبت إجراءُ العملية الانتخابية، وحصولها بسلاسة خصوصاً في مراكز المدن الكبرى، حقيقتين تشكلان الواقع السياسي والميداني الحالي في سورية:
- أن الأسد لم يعد يواجه تحدياً جدياً من داخل سورية، وأصبح آمناً من التهديدات العسكرية والوجودية، بغض النظر عن الوسائل والأساليب التي استخدمها للوصول إلى هذه الحالة.
- أن الأسد سيكون قادراً على الاستفادة من الوضع الحالي لتشكيل شروط النقاش والتفاوض حول مستقبل سورية، وأي تحرك مستقبلي من قبل الفاعلين الدوليين في الملف السوري سيضطر للخضوع لهذه الحقيقة، ذلك أن الأسد وفي ظل الحماية الروسية الإيرانية له سيبقى مسيطراً على جزء كبير من أراضي سورية وسكانها.
أما أولويات نظام الأسد في المرحلة المقبلة والمعوقات أمام هذه الأولويات، فهي كما يأتي:
أولاً، استكمال السيطرة على الأراضي السورية
أكدت مستشارة الرئيس السوري، بثينة شعبان، أن أولويته بعد فوزه في الانتخابات هي تحرير الأراضي السورية، وتعزيز علاقاته مع حلفائه[1]. وهذا يؤشر إلى رغبة النظام في السيطرة على ما تبقى من الأراضي السورية الواقعة خارج سيطرته، التي يبلغ حجمها ثلث البلاد وتحتضن الجزء الأكبر من ثروات سورية، بالإضافة إلى موقعها الحدودي مع العراق وتركيا، كما أن استعادة السيطرة على هذه المناطق تدعم من شرعيته على الأرض وتعزّز تمثيله للدولة السورية. وتقع هذه المناطق تحت سيطرة مباشرة للولايات المتحدة الأمريكية في الشرق، وتركيا في الشمال، حيث يدعم الطرفان وكلاء لهم في تلك المناطق، “قسد” و”الفصائل السورية المسلحة”، كواجهات لسيطرتهما على تلك المناطق.
وبرغم الهدوء النسبي على جبهات القتال في الشرق والشمال، إلا أن المناوشات وخاصة في الشمال مع فصائل المعارضة المسلحة لم تنقطع، وزادت وتيرتها في الفترة الأخيرة، وحَشَد النظام السوري نخبته العسكرية على خطوط التماس مع فصائل المعارضة المسلحة، كالحرس الجمهوري والفرقة الرابعة و”الفرقة 25 مهام خاصة” التي يقودها سهيل الحسن، بالإضافة إلى ميليشيات إيرانية عديدة. والملاحظ أن روسيا استطاعت خلال مرحلة الهدنة في إدلب منذ مارس 2020 إحداث تغييرات عديدة في مسرح عمليات المنطقة، تمثلت بتزويد قوات النظام بصواريخ حديثة مضادة للدروع، وعربات نقل سريعة، وأجرت تدريبات مكثّفة للقوات الموجودة، وتُؤكِّد مصادر المعارضة أن هذه التغيرات قد تؤدي إلى قلب الموازين في أي معركة لصالح قوات الأسد[2].
وفي مناطق شرق الفرات، يسعى النظام السوري، مدعوماً من روسيا وإيران، إلى تحقيق اختراقات لصالحه في جبهة أكثر قوّة وتماسكاً من مناطق إدلب، ويبدو أنه يتراجع أمام قوات “قسد” التي تحاول قضم مساحات جديدة من سيطرته، بعد طردها لقوات “الدفاع الوطني” في القامشلي، واحتمال تكرار العملية في الحسكة، بهدف إضعاف نفوذ النظام إلى أبعد درجة، مُستفيدةً من مظلة الحماية الأمريكية. وكشف تقرير استخباراتي عسكري أمريكي سَعْي النظام السوري إلى تهديد القوات الأمريكية في مناطق شرق الفرات وعلى خط الحدود بين العراق وسورية، حيث رصدت القوات الأمريكية أنشطة النظام السوري بالعمل على بناء علاقات مع القبائل المحلية في شرق البلاد، لإثارة الاضطرابات وإضعاف علاقة الولايات المتحدة مع تلك القبائل، وكذلك دعم هجمات يمكن القيام بها على قوات التحالف الدولي و”قسد”[3].
ولكن، بالرغم من وجود أفضلية لقوات النظام في إدلب ضد فصائل المعارضة، إلا أن المنطقة تبقى محكومة بالتفاهمات الروسية-التركية، وإن كانت العلاقات بين هذين الفاعلين ليست في أفضل أحوالها حالياً، لكن وصولها إلى انقلاب دراماتيكي ليس بين التوقعات. ومن الناحية العمَلانية، لا تبدو الحرب في الشمال سهلة حتى لو أرادت روسيا ذلك، حيث يدفع العسكر الروسي باتجاه تأزيم الوضع في الشمال السوري، إذ يوجد في المنطقة أكثر من 15 ألف جندي تركي، ولا تستطيع قوات الأسد مواجهة القوات التركية المدعومة بالطائرات المسيرة التي كبدتها خسائر كبيرة في جولة معارك فبراير 2020، وأي مواجهة تستدعي انخراطاً جوياً روسياً، وهو ما يبدو أن روسيا غير مستعدة له للأسباب الآتية:
- خضوع المشهد في الشمال السوري لتوازنات دولية تلعب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي دوراً فيها؛ فالولايات المتحدة التي أعلنت التزامها الجانب الإنساني في الملف السوري ستجد نفسها في وضع حرج في حال هجوم روسي-سوري على منطقة جغرافية صغيرة تؤوي أكثر من ثلاثة ملايين مدني، بالإضافة إلى أن أوروبا ستجد في العملية تهديداً مباشراً لأمنها القومي لما سيتبع ذلك الهجوم من موجات لجوء باتجاهها.
- ارتباط الوضع السوري بحسابات روسيا الاستراتيجية الكبرى، وعلاقاتها الإقليمية والدولية، فروسيا التي تحشد قواتها على الحدود مع أوكرانيا وأوروبا ليست مستعدة لفتح جبهة جديدة في سورية. وتدرك روسيا أن تركيا ستحظى بتعاطف أمريكي أوروبي في هذا الوضع، وهو ما لا تريده روسيا في هذا التوقيت في ظل محاولاتها إبعاد تركيا عن الغرب[4].
أما في شرق سورية فيبدو الوضع أشد تعقيداً بسبب وجود القوات الأمريكية، التي تعمل منذ فترة على تعزيز قواعدها بأحدث أنواع الأسلحة، في ظل إصرار إدارة بايدن على البقاء في سورية بوصفها أحد مسارح مواجهة النفوذ الروسي في العالم[5].
ثانياً، تحسين الوضع الاقتصادي
أكد الرئيس السوري، خلال زيارته إلى مدينة عدرا الصناعية في ريف دمشق، أن “الأولوية في المرحلة المقبلة هي للوضع الاقتصادي، ولكيفية تجاوز العقبات التي تواجه القطاع الإنتاجي بشكل عام لتخفيف تأثيرات الحصار وخلق المزيد من فرص العمل في سورية”، وأشار الأسد إلى حاجة البلاد لرأس المال، لأن رأس المال الموجود حالياً لا يكفي بسبب الحصار[6].
ويسعى نظام الأسد إلى تشجيع رؤوس الأموال من أجل الاستثمار في سورية، وقد أصدر الرئيس السوري، قبل الانتخابات الرئاسية بأيام، قانون الاستثمار الجديد رقم (18) لعام 2021 بهدف إيجاد بيئة استثمارية تنافسية لجذب رؤوس الأموال. ويمنح القانون إعفاءات جمركية وضريبية غير مسبوقة للمشاريع الاستثمارية، إذ ألغى الرسوم الجمركية والمالية عن مستوردات الآلات والتجهيزات، وخطوط الإنتاج، ووسائط النقل الخدمية للمشاريع الحاصلة على ترخيص استثماري[7]. كما استطاع النظام السوري تثبيت سعر صرف الليرة السورية بعد الانهيار الحاد في قيمتها، نتيجة جملة من الإجراءات الأمنية والمصرفية. ويطمح النظام إلى جذب الصين ودول الخليج العربية للاستثمار في سورية في المرحلة المقبلة، ولديه تقديرات باحتمالية قبول هذه الأطراف لأسباب تتعلق بحاجتها إلى فرص استثمارية كبيرة، وبالنظر إلى التنافس بين الأطراف المختلفة للحصول على استثمارات ذات مردود اقتصادي مرتفع.
ولكن تحسين الوضع الاقتصادي يواجه معوقات عدة، من أبرزها:
- هجرة رؤوس الأموال المحلية، فقد غادر معظم الشركات الخاصة السورية البلاد إلى الأردن ومصر وتركيا وغيرها من البلدان، وانتهت محاولات تفاوض النظام مع هؤلاء للعودة إلى سورية بالفشل[8].
- خروج معظم موارد البلاد من سيطرة النظام السوري، وافتقاره إلى أي موارد تساعد في إنجاز خططه التشغيلية.
- لا تزال سورية بيئةً غير آمنة للاستثمارات، بسبب الفوضى الأمنية وسيطرة الميليشيات وأمراء الحرب على الأوضاع الأمنية في البلاد، وبحسب التقرير السنوي لمؤشر السلام لمعهد “الاقتصاد والسلام”، احتلت سورية المرتبة الثالثة بين الدول الأقل أمناً في العالم[9].
- عدم استقرار العملة، فالاستقرار الحاصل في الآونة الأخيرة كان نتيجة إجراءات وضغوطات كبيرة قامت بها الأجهزة الأمنية، وليس نتيجة تحسن اقتصادي ملموس، وهناك احتمالات بمعاودة هبوط الليرة، وتأثيرها على استقرار مؤسسات الدولة والاستقرار الاجتماعي بشكل عام[10].
- “قانون قيصر” المصمّم لمنع تدفق استثمارات خارجية على سورية، ولا يبدو أن هناك تغيرات في الأفق بهذا الخصوص، باستثناء الإعفاءات التي قدمتها وزارة الخزانة الأمريكية فيما يخص شراء منتجات مكافحة مرض كورونا[11].
ثالثاً، عودة العلاقات العربية
يعتبر النظام السوري عودةَ العلاقات العربية معه أولويةً مهمة في المرحلة المقبلة، ويركز بدرجة أساسية على المملكة العربية السعودية، لتقديره أنها قادرة على تأمين غطاء لعودته للحاضنة العربية، وإمكانية الاستفادة من الأموال السعودية والخليجية في إعادة الإعمار. وتبذل روسيا جهوداً في هذا السياق، لاعتقادها أن إقامة علاقات دبلوماسية بين سورية والسعودية سيعطي إشارة قوية للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بضرورة إعادة النظر في موقفهما من النظام السوري.
وبرغم ترويج النظام السوري عودة عربية قريبة إلى سورية، ووجود حركة اتصالات بهذا الخصوص، إلا أن الوقائع تكشف أن هذه الاتصالات العربية مع دمشق لا تزال في بداياتها، وهي خاضعة لاختبارات كثيرة[12]، كما أن الأطراف العربية ما زالت متمسكة بمواقفها من ضرورة حصول إجماع عربي على عودة العلاقات مع سورية. وقد أكد المندوب السعودي الدائم لدى الأمم المتحدة عبد الله المعلمي أنه من المبكر الحديث عن عودة العلاقات السعودية مع النظام في سورية، وبخاصة أن النظام ما زال يمارس هجماته على المدنيين في سورية، ويمارس سياسة التغيير العنصري، مشيراً إلى أن هناك خطوات عديدة ينبغي على النظام في سورية أن يتخذها قبل الحديث عن إعادة العلاقات معه. وفيما يتعلق بعودة مقعد النظام في جامعة الدول العربية، قال المعلمي إنه لا يظن أن هناك عودة قريبة للنظام إلى الجامعة، لأن قرار عودته يتطلب قراراً جماعياً من الجامعة، والدول العربية في معظمها تتحفظ على الوضع في سورية، لذلك يصعب الحديث عن عودته إلى مقعده[13].
وتواجه خطة عودة العلاقات العربية عقبات عدة، من أهمها:
- ضآلة جدوى استخدام الاستثمار الاقتصادي كأداة للاستثمار السياسي على الساحة السورية، كما أن الموارد والقطاعات الاقتصادية السورية الرئيسة، والمثيرة للاهتمام، باتت في مجملها في قبضة الروس والإيرانيين، بموجب اتفاقيات رسمية[14].
- رفْض سورية التعاون في ملفات أمنية، وتحديداً تجارة المخدرات التي باتت تشكّل مصدر تهديد للعديد من البلدان العربية، وتعتقد مصادر غربية أن السبب في ذلك يعود إلى أن تهريب المخدرات بات مصدراً أساسياً في اقتصاد الظل السوري، في ظل وجود العقوبات الغربية، وهو يُدر مليارات الدولارات الأمريكية، ولن يكون سهلاً التخلي عنه في ضوء تنامي دور شبكات أثرياء الحرب الجدد والحاجة إليهم وإلى أموالهم حالياً[15].
- الموقف الأمريكي الرافض لإعادة تأهيل النظام السوري، حيث تعتقد جهات أمريكية أن ذلك سيكون بمنزلة مكافأة لإيران، ما يدفعها إلى الاعتقاد بأنها تسيطر على السياسة الإقليمية، ممَّا يضع حلفاء أمريكا في المنطقة العربية، وخاصة في منطقة الخليج، في موقف دفاعي مع فرصة ضئيلة للخروج منه[16].
توقعات النظام السوري ورهاناته وأوراقه
لم يطرح النظام السوري أي برامج وخطط عمل ولا أفكار بخصوص تحقيق أولوياته وخياراته في المرحلة المقبلة، ولم يلاحُظ أي عملية حشد للموارد، الدبلوماسية والمالية ولا حتى العسكرية، في سبيل السير على طريق تحقيق تلك الأهداف.
ومن خلال رصد تصريحات بعض مسؤولي النظام ووسائل الإعلام التابعة له يتبين الآتي:
- اعتماد النظام على مؤشرات غير حقيقية والبناء عليها، ويبرز بهذا الخصوص إعادة العلاقات مع الدول العربية التي تُعد واحدة من الأولويات في هذه المرحلة، حيث يتم الاعتماد مثلاً على عدم صدور تصريحات معترضة من قبل الدول العربية على إجراء الانتخابات السورية، كما حصل في انتخابات عام 2014، لكن هذا المؤشر لا يكفي للقول بأن استعادة العلاقات مع المحيط العربي ستكون سلسةً، وخاصة بعد تبلور موقف دولي يرفض إعادة تأهيل النظام. ومن جهة أخرى، لم يتبنَّ النظام خطة واضحة ولا آليات محدّدة ولا صياغة مقاربة معينة لاستقطاب الدول العربية وتشجيعها على إعادة فتح العلاقات معه، والخطاب الإعلامي الذي يتحدث عن هذا الأمر ينتظر مبادرة الدول العربية وليس العكس، ويرفض النظام حتى مجرد تقديم طلب لاستعادة عضويته في الجامعة العربية[17].
- سيطرة التفكير الرغبوي في التحليل والتوقع، حيث يتم تجاهل الوقائع الصلبة والتعقيدات والتشابكات التي تحيط بالملف السوري، وغالباً يتم الانطلاق من واقعة الانتخابات، وما حققته من حضور كبير، والبناء عليها، وتقديمها باعتبارها متغيّراً مهماً سيكون له تأثير إيجابي لدى العالم الخارجي.
- طمأنة الداخل، حيث يسعى النظام إلى طمأنة الداخل السوري بوجود محاولات للخروج من الأوضاع السيئة، وتحمُّل الظروف القاسية بانتظار الفرج القريب.
وتقوم رهانات النظام السوري في قدرته على تحقيق أهدافه على قراءته لبعض المتغيرات في السياستين الإقليمية والدولية، ومن ذلك:
- وصول الديمقراطيين إلى السلطة في الولايات المتحدة، وما يعني ذلك من تغيّر في أولويات السياسة الأمريكية في المنطقة، والتي تقوم على عنوان أساسي وهو التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران، وما دونه تفاصيل أقل أهمية، بالإضافة إلى قناعة الديمقراطيين، كما جسَّدها باراك أوباما في فترة إدارته، بعدم قدرة المعارضة السورية على تشكيل بديل مقنع للأسد، وبالتالي لا داعي لانخراط أمريكي في معركة خاسرة لإسقاط الأسد.
- اضطرار الدول العربية إلى الانفتاح على سورية لأسباب منها سقوط الفيتو الأمريكي في مرحلة من المراحل، أو كَرَدّ على الاتفاق النووي مع إيران، أو تطبيقاً لرؤية عربية تتبناها أطراف كثيرة وتُفيد بضرورة احتواء سورية لوقف التمدّد الإيراني والتركي؛ ومنها الرهان على الحضور الصيني في مشاريع الإعمار، نتيجة تطور علاقات الصين بإيران بعد اتفاقية الشراكة الاستراتيجية بينهما، أو نتيجة لاشتداد التوتر مع الولايات المتحدة، وهو ما سيشكل دافعاً للكثير من مراكز التمويل، وخاصة الخليجية للانخراط في مشاريع الإعمار في سورية؛ ومنها أيضاً الرهان على الاتفاق النووي الأمريكي-الإيراني، واحتمالية انعكاسه على أذرع إيران وحلفائها، واضطرار إدارة بايدن إلى تقديم تنازلات بشأن “قانون قيصر” في المرحلة المقبلة.
ويعتقد صانع القرار السوري أنه يملك بعض أوراق قوّة ستدفع الفاعلين الدوليين والإقليميين إلى التحاور معه وإعادة العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية؛ فهناك الورقة الأمنية، حيث تمتلك أجهزة الأمن السورية بنك معلومات حول التنظيمات الإسلامية والمتطرفة، نتيجة اختراقها أجهزة تلك التنظيمات واعتقال رؤوس كبيرة فيها، ومعرفة خريطة انتماء عناصر التنظيمات والأماكن التي يُحتمل أن بعضها استقر فيها بعد خروجه من سورية، ولطالما ربطت سورية التعاون الأمني بالعلاقات السياسية[18].
وهناك ورقة اللاجئين، وهو ملف يهم الدول الأوروبية، ولا يمكن معالجته دون التعاون والتفاهم مع النظام السوري، وخاصة في ظل وجود دول أوروبية تدعو إلى ضرورة معالجة هذا الملف بالتفاهم مع النظام مباشرة. وقد كشفت أزمة اللاجئين في الدنمارك عن إشكالية عدم التعامل مع النظام السوري مباشرة، ومن غير المتوقع أن يجري غلق هذا الملف في المدى القريب؛ فمحاولات السوريين الوصول إلى أوروبا مستمرة.
وهناك ورقة إعادة الإعمار الذي سيكون جاذباً للعديد من الشركات الأوروبية بعد انتهاء الحرب ونجاح العملية السياسية.
خلاصة واستنتاجات
تعكس أولويات النظام السوري، في مرحلة ما بعد الانتخابات، رغبة النظام ورهاناته نحو الانتقال إلى مرحلة جديدة يطوي معها صفحة المخاطر على استقراره وثباته نهائياً، وقد أكد نجاحه في إجراء الانتخابات، بتأييد روسي كبير، استمرار نظام الأسد كمعطى نهائي في الوضع السوري يتحتم على باقي الفاعلين التعامل مع هذه الحقيقة في لحظة زمنية ما، وخاصة في ظل عجز المعارضة عن تشكيل بديل مقنع للأسد.
لكن عامل الزمن الذي برع النظام السوري في استثماره بشكل جيد خلال مرحلة الأزمة، يبدو أنه بات يشكّل عنصراً ضاغطاً على النظام وحليفته روسيا، ويتضح ذلك من خلال استعجالهما حرق المراحل لإعادة تأهيل النظام، وإزاحة المعوقات التي تقف في طريقه، وهذا ما يبدو جلياً من خلال حزمة الأولويات التي يتبناها الطرفان، والتي يظهر فيها عنصر اللاواقعية، وخاصة لجهة ترتيب الأولويات والقدرة على إنجازها.
وبعيداً عن البعد الدعائي في صناعة سياقات لا تبدو حقيقية، عن تقارب دولي وعربي مع النظام السوري، واحتمالات تدفق الاستثمارات في المرحلة المقبلة، فإن روسيا والنظام يواجهان تحديات ليست سهلة، فمن غير المرجح أن تتغير مكانة سورية الدولية بالنسبة لمعظم الفاعلين في المرحلة المقبلة، ما دام ليس هناك تغيير سياسي حقيقي في دمشق، والمحددات والشروط التي وضعتها أغلب الأطراف الفاعلة لا يمكن للقدرات التفاوضية لروسيا ونظام الأسد تفكيكها وحلحلتها.
كما من غير المتوقع تمكّن روسيا من تغيير المعطيات العسكرية، نتيجة العوائق الميدانية التي فرضتها الدول الفاعلة على الأرض، لذا لم يتبق أمامها سوى خيار التفاوض حول تحريك العملية السياسية. وبالنظر إلى فقدان الثقة الدولية بهذا المخرج نتيجة تعطيله مدّة طويلة من قبل روسيا والنظام، فقد طرحت روسيا، بهدف تزخيم هذا المسار، فكرةَ إجراء انتخابات مبكّرة في حال توصلت المعارضة مع النظام إلى اتفاق على صياغة دستورية جديدة.
ومع ثبات موقف الإدارة الأمريكية على حاله من النظام السوري، وهو ما أكده الرئيس بايدن لنظيره الروسي في قمة جنيف التي انعقدت في 16 يونيو الجاري، بالإضافة إلى عدم الاهتمام بإيجاد حل سريع للأزمة السورية والتركيز فقط على البعد الإنساني، فإن روسيا ستجد نفسها مستهدفة بهذه السياسة التي تهدف إلى استنزافها في الأزمة السورية إلى أبعد حدود، وربما سيدفعها ذلك إلى صياغة مقاربات جديدة، وخاصة بعد فشل محاولاتها العربية والدولية في إعادة تأهيل النظام السوري.
وبناءً عليه، يمكن الخلوص إلى أن الأوضاع السورية ستبقى جامدة في المرحلة المقبلة، ما لم تحصل تغييرات فارقة في العملية السياسية، وهو أمر ستقرّره روسيا، بدرجة أساسية، التي تراجعت خياراتها بدرجة كبيرة بعد فشل مساعيها الدبلوماسية في إعادة تأهيل النظام السوري.
الهوامش
[1] لقاء بثينة شعبان مع قناة الميادين في برنامج” لعبة الأمم”، 2 يونيو 2021. متاح على الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=qy-gG3NXb5A
[2] خالد الخطيب، “إدلب: مضادات الدروع الروسية تربك المعارضة.. وقد تقلب الموازين”، موقع المدن الإلكتروني، 2 مايو 2021.
[3] معاذ العمري، “أميركا تكشف تواصل نظام الأسد مع قبائل شرق سوريا لـ (تهديد) قواتها، تقرير لـ(البنتاغون) يشير إلى تهيئة حكومة دمشق وجوداً دائماً لحلفائها”، الشرق الأوسط، 16 يونيو 2021.
[4] مروان قبلان، “سورية.. حسابات النظام ورهاناته”، العربي الجديد، 2 يونيو 2021.
[5] بهاء العوام، “بدائل روسيا في سورية”، العرب اللندنية، 10 مارس 2021.
[6] “الأسد خلال زيارة لمنطقة عدرا الصناعية، لدى سورية الإمكانات لتجاوز الحصار”، روسيا اليوم، 9 يونيو 2021.
[7] “الرئيس الأسد يصدر قانون الاستثمار الجديد.. يهدف إلى إيجاد بيئة استثمارية تنافسية جاذبة لرؤوس الأموال”، وكالة سانا للأنباء، 19 مايو 2021.
[8] عدنان عبد الرازق، “فخ إغراءات عودة المستثمرين لسورية: النظام يقدم ضمانات أبرزها عدم المصادرة”، العربي الجديد، 3 يونيو 2021.
[9] “سوريا ثالث أقل الدول أمناً في العالم عام 2020″، موقع عنب بلدي، 18 يونيو 2021.
[10] إياد الجعفري، “صيف هادئ لليرة السورية.. ماذا عن الخريف”، موقع المدن الإلكتروني، 17 يونيو 2021.
[11] “الخزانة الأمريكية تعلن ارشادات وإعفاءات في عقوبات على سورية وإيران مرتبطو بكورونا”، موقع CNN بالعربي، 17 يونيو 2021.
[12] براهيم حميدي، “هل هناك تريث عربي في “التطبيع” مع دمشق؟”، الشرق الأوسط، 12 يونيو 2021.
[13] “السعودية وقطر تؤكدان أن لا مجال للتطبيع مع الأسد”، الخليج أون لاين، 9 يونيو 2021.
[14] إياد الجعفري، “لا استثمارات خليجية إلى سورية قريباً”، موقع المدن الإلكتروني، 1 يونيو 2021.
[15] “هل هناك تريث عربي في ” التطبيع ” مع دمشق؟”، مصدر سابق.
[16] علا الرفاعي وهارون ي. زيلين، “العواقب السياسية لتطبيع الدول العربية مع نظام الأسد”، معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، 2 يونيو 2021.
[17] “سيناريوات ما بعد الرئاسيات: نحو تحولات لمصلحة دمشق؟”، جريدة الأخبار اللبنانية، 7 يونيو 2021.
[18] “الأسد يساوم الغرب.. إعادة العلاقات الدبلوماسية والسياسية مقابل التعاون الأمني”، الدرر الشامية، 19 يونيو 2021.