من الأهمية بمكان إلقاء الضوء على تجربتي رائدين من رواد المسرح العربي، ونعني بهما: جورج أبيض ويوسف وهبي، عبر فرقتيهما اللتين قدمتا مسرحا متميزا.
فقد قام الفنان المسرحي الكبير جورج أبيض بنشاط جم، حيث أسس فرقا مسرحية متعددة بدءا من عام 1910، وكانت باللغة الفرنسية، ثم أسس فرقة عربية في عام 1912، وقدم خلال تجربته العديد من عيون نصوص المسرح الغربي، مثل «أوديب» ومسرحيات موليير، طرطوف، ومدرسة الأزواج، ومدرسة النساء، والنساء العالمات، وكذلك مسرحيات شكسبير وجورج برنارد شو، واجتذب نشاطه عددا من الشعراء فصاغوا مسرحيات له، مثل حافظ إبراهيم، وخليل مطران.
ومن أجل ذلك؛ تعاون جورج أبيض مع العديد من الفرق والفنانين الموجودين على الساحة وأبرزهم، سلامة حجازي، عام 1914، واشتركا في تقديم مسرحيات بالفصحى مثل: «صلاح الدين الأيوبي» لفرح أنطون، مع عرض مسرحياتهما السابقة، وأدخلت لأول مرة الحفلات النهارية «الماتينيه» التي لاقت إقبالا يفوق الحفلات الليلية، ثم استقل كلٌ منهما بفرقته عام 1916. ويحسب لجورج أبيض حرصه على التجول في البلاد العربية (الشام وتونس وشمال افريقيا) وكذلك الذهاب إلى الوجهين القبلي والبحري في مصر، بدءا من عام 1918، ثم في عام 1925، حيث ذهب في رحلة إلى مدن الصعيد، وقدم أكثر من ثلاثين مسرحية، مصطحبا أوركسترا كاملة، ثم كرر التجربة عام 1926 في مدن الوجه البحري.
كما تعاون مع فرقة رمسيس مقدِّمينِ موسما مسرحيا في عامي 1927- 1929، وسافرت الفرقتان (جورج أبيض ورمسيس) معا إلى بلاد الشام، وعرضتا عروضا عديدة قبل انفصالهما ثانية.
لقد قدم جورج أبيض على مدى ثلاثين عاما أكثر من 130 مسرحية، معظمها من المسرح الغربي، وتشمل التراجيديا الإغريقية والكلاسيكية الجديدة، والرومانتيكية والميلودراما والواقعية والكوميديا والتاريخية، كما قدم مسرحيات تاريخية وأخلاقية ووطنية، لمؤلفين عرب. وإن حرِصَ جورج أبيض على عدم البعد عن تقديم المسرح باللغة الفرنسية، بدءا من فرقته الأولى عام 1910، ثم عام 1918، ثم 1919، وأخيرا في عام 1932، مستثمرا وجود الجاليات الأجنبية في مصر.
تجربة جورج أبيض كانت تعاني من قلة النصوص العربية من جهة، وفي الوقت نفسه أراد هو تقديم نماذج من المسرح الغربي الجاد، من أجل تكوين ذائقة راقية لدى الجمهور المصري، وأيضا لدى الجمهور العربي، من خلال الرحلات العديدة التي كانت تقوم بها الفرق المسرحية إلى البلدان العربية. ويبدو أن تقديم المسرحيات الغربية بأحداثها وشخصياتها نفسها معربة بالفصحى؛ قد اجتذب شرائح واسعة من الجمهور، خاصة المثقفين والمتعلمين، بعيدا عن المسرح الغنائي، الذي انتشر في العقد الأول والثاني من القرن العشرين، مع سلامة حجازي وسيد درويش وغيرهما. وبعبارة أخرى، فقد وجدت اتجاهات متعددة للمسرح المصري في الربع الأول من القرن العشرين، منها الغنائي المحلي، ومنها الغربي المعرّب، ومنها المسرح المحلي المؤلّف، وواكبت ذلك جماهير عريضة أقبلت على هذه العروض المتعددة، مع اختلاف مستوياتها التعليمية والثقافية، وأن هناك شريحة واسعة من الجمهور تذوقت المسرح الغربي: أحداثا وسردا وشخصيات، وأقبلت عليه، على الرغم من اغتراب بيئته وفكره عن الواقع العربي والمحلي المعيش.
ولم تكن لجورج أبيض انحيازات فكرية أو ثقافية بعينها، فقد قدم مختلف الاتجاهات المسرحية، الغربية والشرقية والمحلية، منحازا إلى شيء واحد، وهو تعزيز الفن المسرحي لدى الجماهير، خاصة المسرح الجاد، وإن كان يقدم أحيانا المسرح الهزلي والغنائي، عندما يجد عزوفا من الجمهور، وتعاون في ذلك مع سيد درويش وغيره من الملحنين، وهو ما جعله رائد المسرح المصري.
أن مؤسسي الفرق المسرحية في العالم العربي كانوا على وعي تام بحاجات الجماهير، ويرصدون من خلال تفاعلهم الحي والمباشر ما يجذب الجماهير إلى فنهم، ويحاولون قراءة المستقبل واختيار النصوص المقبلة، وتطوير ذائقتهم، خاصة أن هذه الفرق كانت أهلية، ولا يوجد دعم حكومي أو مؤسساتي لها في بداية الأمر، فكانت في حاجة مستمرة لدعم الجماهير ماديا.
وبدءا من عام 1923 ولمدة أكثر من عشر سنوات، ظهرت فرقة «رمسيس» النظامية التي أوجدت واقعا مسرحيا فيه ديمومة، من خلال مجموعة من الممثلين الموهوبين، يقودهم نجم ذو كاريزما وقدرات إدارية وإخراجية عالية، ونعني به يوسف وهبي، الذي جمع ما بين الإخراج والتمثيل وقيادة الفرقة المسرحية وإدارتها، وأيضا اختيار النصوص وصياغتها بالتمصير أو التعريب، وقد اجتذبت الفرقة جمهورا عريضا ومثقفين كثيرين، وواصلت تقديم روائع المسرح العالمي مثل: «غادة الكاميليا» و»راسبوتين» و»كرسي الاعتراف» وإن كان أُخذَ عليها الميل إلى تقديم الميلودراما الزاعقة من أمثال: «الذبائح وأولاد الفقراء» و»أولاد الذوات» و»أولاد الشوارع».. إلخ، بجانب الاقتباس من الأجنبي، والتوليف بين الغربي والمحلي، وتقديم الفصيح والعامي، وغير ذلك. كما ألزمت الجمهور باحترام قواعد المسرح، وآدابه، واحترام المواعيد، وكان هذا موضع مفاخرة يوسف وهبي والممثلين معه، الذين وجدوا تشجيعا من كبار النقاد والصحافيين في مصر.
تأرجحت فرقة «رمسيس» بين الغربي والشرقي، وقبلت نصوصا من مؤلفين مصريين، مثلما قدموا نصوصا أجنبية أو مقتبسة، فيمكن القول إن انحيازها كان للمتفرجين في الأساس، وما ينجذبون إليه مسرحيا، وكانت الثيمة الراجحة عندهم والتي وجدت احتفاء كبيرا من الجمهور هي عرض مشاكل المجتمع المصري من مآس وفواجع بشكل ميلودرامي فج، ما جعلهم يتركون النصوص الأجنبية، ويتعاونون مع المؤلفين المصريين، وقد تم تحويل غالبية هذه المسرحيات إلى أفلام سينمائية بعد ذلك، مستثمرين نجاحها مسرحيا. أما تقديمها للنصوص الأجنبية فهذا طبيعي، وسيظل مستمرا إلى يومنا، فقد دأب صانعو المسرح العربي على الاستفادة من النصوص والاتجاهات المسرحية العالمية، مما يثري التجربة العربية، ويتعرف المشاهدون على الجديد عالميا. فنحن مع تقديم عيون المسرح العالمي، لأنها إضافة بصرية وفكرية وفنية للممثلين والمشاهدين على السواء، فالجمهور الذي يتفاعل إيجابا مع المسرح العالمي بكل أحداثه وشخصياته وأفكاره هو جمهور راق وعالي الذائقة بلا شك. أما الاتجاه الاجتماعي فهو محمود، وإن غلبت عليه مبالغات الميلودراما، لأنه الأساس لتكوين مسرح محلي متكامل في عناصره.
أن مؤسسي الفرق المسرحية في العالم العربي كانوا على وعي تام بحاجات الجماهير، ويرصدون من خلال تفاعلهم الحي والمباشر ما يجذب الجماهير إلى فنهم، ويحاولون قراءة المستقبل واختيار النصوص المقبلة، وتطوير ذائقتهم، خاصة أن هذه الفرق كانت أهلية، ولا يوجد دعم حكومي أو مؤسساتي لها في بداية الأمر، فكانت في حاجة مستمرة لدعم الجماهير ماديا.
كاتب مصري
“القدس العربي”