يتوافر الكثير من العناصر المشتركة لعقد مقارنة بين سقوط كابول في أفغانستان، وسقوط سايغون في فيتنام، الأمر الذي دفع الكثير من المعلقين العرب، للبناء على هذه المقارنة واستخلاص نتائج، وما قالوا إنها «دروس» حول فشل مشاريع الولايات المتحدة واستراتيجيتها. وإن صحت، هذه النتائج، بسبب الاستسهال الأمريكي لإحداث تغيير في بلدان تنقسم فيها المجتمعات، وتنهار وتتصاعد الصراعات، لدرجة انتفاء أي عامل لإحداث تغيير، فإن مقارنة أخرى، قد تكون أكثر جدوى، وانعكاسا على أوضاعنا في المنطقة، لاسيما المشرق.
فسقوط كابول قد يكون أقرب لسقوط طهران عام 1979، حين انهار نظام الشاه الموالي للغرب، وواشنطن تحديداً، وسيطر على البلاد الإسلاميون الراديكاليون الشيعة، عقب نجاح ما سمي «ثورة إسلامية» حظيت في البداية بقبول من أجزاء واسعة من الإيرانيين الكارهين لنظام الشاه، الذين ما لبث أن خاب أملهم، بعد تحول «الثورة» إلى نظام ثيوقراطي متشدد، يفرض أحكاماً قاسية على المجتمع ويقولبه على هواه. طبعا «طالبان» لا تحظى حاليا بالشعبية ذاتها التي حظي بها الخميني، لأن مسارها معاكس، إذ فرضت القمع على المجتمع، قبل السلطة، وليس مثل النظام الإيراني الحالي.
«طالبان» غير بعيدة، عن المخيال الإمبراطوري الإسلامي، الذي يمكن استخدامه كأيديولوجية للتوسع، ومدّ النفوذ
أسبقية القمع على السلطة، ومَن أنتج مَن، مرتبط باختلاف الظروف والسياقات التاريخية، لكنه يرتب نتيجة من نتائج كثيرة، لطبيعة ممارسات القوى الإسلامية الحاكمة، التي استثمرت بالتناقضات العرقية والطبقية، لإيجاد رافعة اجتماعية لها، في إيران وأفغانستان، سواء بوجود كتلة مؤيدة للنظام بشكل أيديولوجي أعمى، في الحالة الأولى، أو كتلة تقاتل مع الحركة المتطرفة في الحالة الثانية، أي أن علاقة هذه القوى بالمجتمع، قوامها استغلال انعدام الإجماع، لتأمين داعم، ومن ثم صناعة تشريعات وقوانين ونظم لقولبة البشر وتنميطهم. «طالبان» عملياً، وقبل سيطرتها على أفغانستان، قطعت الشوط الأول، وبقي أن تمر بالثاني، بمعنى صناعة تشريعات ونظم تنطلق من رؤيتها وتصوراتها الدينية، التي ستختلف عن «ولاية الفقيه» في إيران بالتفاصيل، وتتقاطع معها في طبيعة السلطة وشكلها وتأثيرها في المجتمع، لاسيما النساء والأقليات. من هنا، يسهل دحض البروباغندا التي تتحدث عن تغير «طالبان» وانتظار أفعالها، إذ إن هذا التغير عكس ما يسوق له، سيكون نحو الأسوأ، لأن الحركة ستشرع توجهاتها للحكم في نظام وسلطة، وبالتالي، انعكاس ذلك على المجتمع سيكون كارثيا، على اعتبار القمع الذي كان في السابق يحصل انطلاقا من تفسيرات محددة، ستجري الآن هيكلته ويتحول إلى بنية صلبة، بالاستناد إلى تفسيرات لا إجماع حولها في الدين. تغير الحركة، قد يكون نحو الخارج، وتقديم ضمانات لدول الجوار، أما في الداخل، فقد تعمد «طالبان» لكسب رضى القوى التي تهددها، عبر تمثيل مصطنع لبعض الجماعات والعرقيات، فيما شكل وطبيعة السلطة يتطابق مع وعي الجماعة الأوحد للحكم، وهو ما سيترك أثر مدمراً في المجتمع المنقسم أصلاً. غير أن تحول «طالبان» لـ»جمهورية إسلامية» سنية في أفغانستان على غرار «الجمهورية الإسلامية» في إيران، وهو ما أصبح العالم أكثر استعدادا لقبوله، أو عدم ممانعته طالما يحصل ضمن تسويات وتفاهمات، لن يوفر من تداعياته جماعات المشرق العربي تحديداً السنّة في العراق ولبنان وسوريا. فهؤلاء، أو جزء واسع منهم، يشعرون على وقع الانهيارات المتتالية التي وقعت في السنوات الأخيرة، بمظلومية، تتعلق بتوغل مشروع إيران في المنطقة، وقضمه لنفوذهم، لحساب جماعات شيعية تدعمها الجمهورية الإسلامية، كما إنهم يشعرون، بفراغ على مستوى القيادات المحلية، فضلاً عن تخلي دول إقليمية طالما شكلت مظلة لهم. بصرف النظر عن، موضوعية عناصر سردية المظلومية السنية، إذ إن سرديات المظلوميات غالبا ما تتضمن تضخيما وتخيلا وأوهاما، لكن النتيجة، يصعب عدم الانتباه لها، وهي وجود استعداد، لدى سنّة المشرق، لإيجاد سند، يؤمن الخروج من حالة الضعف، التي يتصورونها في أنفسهم، وهو ما يفسر احتفاء الكثيرين بما سمي «انتصار» «طالبان» وسيطرتها على أفغانستان. الأمر أشبه بعلاقة إيران مع شيعة المشرق، الذين جرى استغلال مظلومياتهم التاريخية، وخلل علاقتهم مع دول ما بعد الاستقلال وما تلاها من انقلابات وقمع أو تهميش سياسي، لتجنيدهم في مشاريع الجمهورية الإسلامية الرامية إلى التوسع ومدّ النفوذ.
صحيح أن هناك عوامل حالية تحول دون سيناريو التقاط «طالبان» للفراغ السياسي، الذي يعيشه سنّة المشرق، لاسيما، انشغال الحركة بتأسيس نظامها وبناء تفاهمات وثقة مع دول الجوار، التي بينها إيران نفسها. لكن في الوقت نفسه «طالبان» غير بعيدة، عن المخيال الإمبراطوري الإسلامي، الذي يمكن استخدامه كأيديولوجية للتوسع، ومدّ النفوذ. والأرجح أن المشرق، بيئة خصبة لترجمة هذا المخيال، بسبب انقساماته العميقة، وصراعات جماعاته، وبحثها المحموم عن داعم خارجي، يؤمن غلبتها على الخصوم.
كاتب سوري
“الشرق الأوسط”