تطييف الإيمان: حماية الاستبداد في سورية

رهف الدوغلي/ ترجمة أحمد عيشة

نتيجة للتقسيم التعسّفي للإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، لم يكن للدولة السورية هوية إقليمية قوية؛ حيث تُرِكت سورية على شكل فسيفساء من الأعراق والأديان والطوائف والخلفيات القومية، ومن ضمن ذلك الأقليّات المهمة التي تُعرف بالأرمن والآشوريين والدروز والفلسطينيين والأكراد واليزيديين والمُحَلّميّين (الماردل) والمسيحيين العرب والمندائيين، والتركمان، واليونانيين، وغيرهم. عندما استولى حزب البعث على السلطة في سورية المستقلة في الستينيات، على إثر انقلاب عسكري، حاول الترويج جزئيًا لنوع جديد من الهوية الوطنية التي سعت إلى دمج فسيفساء المجتمع السوري في بنيةٍ أكثر تماسكًا واستقرارًا.

في ذلك الوقت، كان أنصار الحزب يمثلون أقلية في سورية، ولذلك أطلق النظام مسارًا صارمًا لتلقين عقيدة الدولة القومية، بقصد ترسيخ حكم البعث وإرساء الشرعية الشعبية. من بين المساعي الأخرى، سعى البعثيون إلى التلاعب بالهويات القَبَلية والطائفية، سعيًا وراء تكوين شبكات الزبائنية من خلال تعزيز مكانة الفئات التي كانت مهمّشة سابقًا. بعد وصول حافظ الأسد إلى السلطة في عام 1970، ركّز مشروعه على تجانس هذه الكيانات السورية المتنوعة في هوية بعثية واحدة متخيلة. ولكن بالمعنى الأوسع، كان الهدف الأسمى للبناء القومي هو دمج الهويات المحلية في مفهوم أوسع لـ “الشعب السوري”، المعرّف وفقًا لحدود الدولة الإقليمية.

صُنِفت الطائفة كشكل من أشكال الانتماء من خلال الثنائية المفروضة بين البعثيين/ غير البعثيين. هنا، هناك سؤال مُلحّ يحيد عن التركيز على تصوّر مفهوم الهويات السورية على أنها قديمة ومستقرة أو معرفة طائفيًا. أفضّلُ التأكيد أن السوريين العاديين بنوا هوياتهم الاجتماعية على أنها ليست طائفية بالفطرة، لكنها أصبحت طائفية من خلال التفاعلات اليومية، وهو الأمر الذي خفض مستوى الثقة بين السوريين. يستلزم هذا التفاعل اليومي آلية النظام المتعمدة لضمان سيطرة العلويين على المناصب الحكومية والعسكرية القوية. هذا التركيز على الفاعلية على المستوى الجزئي، وعلى الأنشطة التي تشكل نسيج الحياة الاجتماعية، يُوفر تصحيحًا لوجهة النظر الذرائعية التي تميل إلى رؤية الطائفية كنتيجة للسياسات على المستوى الكلي. ومع ذلك، علينا أن نأخذ في الحسبان أن التقلبات المستمرة في تشكيلات الهوية قد تكون ناجمة عن الاختيارات المجمّعة لعدد من الأفراد، من ضمن ذلك أعضاء الطوائف المهمشين الذين يعترضون على القواعد المعمول بها من خلال إجراءات يومية صغيرة.

الطائفية بعد انتفاضة 2011

أعطت الاضطرابات السياسية في العقد الماضي في سورية للطائفية أهميّة جديدة. صوّرت بعض البحوث الصراع السوري على أنه طائفي، حيث كانت تنظر إلى الهوية الطائفية في سورية على أنها فطرية وثابتة ودائمة. الباحثون الذين ينظرون إلى الطائفية من منظور بدائي يميلون إلى عدّ الانتماء إلى الطائفة إرثًا أساسيًا يولد فيه معظم الأفراد. وكما حدث في مناقشات التغطية الإعلامية السائدة؛ غالبًا ما تفيض هذه النظرة إلى لغةٍ تنسب الصراع السوري الحالي إلى الكراهية الطائفية القديمة. كما قامت مجموعة متنوعة من المعلقين المؤثرين والشخصيات السياسية بالتعبير عن لغة مماثلة، من ضمنهم باراك أوباما، الرئيس الأميركي السابق. بصفتي باحثة سورية، غالبًا ما أرى النقاشات الأكاديمية منغمسة في معالجة الصراع السوري بكونه مسألة صراع سني-علوي: أغلبية سنيّة تسعى لإطاحة أقليّة حاكمة.

تصوّرَ آخرون الصراع على أنه صراع جيوسياسي، حيث يتم التلاعب بالطوائف وتعبئتها واستغلالها من قبل جهات فاعلة إقليمية مختلفة، مثل إيران والمملكة العربية السعودية وغيرهما. ومع ذلك، فإن وجهة النظر هذه لا تتناسب مع السياق التاريخي والسياسي للحالة السورية، ولا تشرح كيف قام النظام بأمننة الطائفة السنية [حوّلها إلى تهديد وجودي له] كأحد أساليب بقائه الاستراتيجية. ما نفتقده هو إلقاء نظرة فاحصة على الكيفية التي لم يسعَ بها النظام وحدها إلى التحالف نيابة عن قاعدته الاجتماعية العلوية فحسب، بل أعاد أيضًا تشكيل التكتيكات الموجودة مسبقًا لاستمالة العلماء السنّة. من أجل فهم مسألة الهويات في سورية: أهي طائفية بطبيعتها أم أصبحت طائفية نتيجة ممارسات من الأعلى، نحتاج إلى استكشاف مراحل استغلال النظام وتعبئته وأمننة الطائفة، لأسباب تتعلق بالشرعية والبقاء بعد حرب 2011.

أمننة النظام للطائفة بعد حرب 2011

منذ الأيام الأولى للانتفاضة، اعتمد خطاب البعث الرسمي على الطائفية كواجهة لشرعية الأسد، الذي اعتمد على جهاز أمني طائفي للحدّ من الاحتجاجات المؤيدة للديمقراطية. بالتوازي مع رد النظام العسكري العنيف الذي قام به في الغالب الشخصيات العلوية الموالية، كانت ردة فعل النظام البعثي على مطالب الشعب هي خلق أشكال مميزة من القومية الطائفية التي تم دمجها مع العقيدة البعثية. عند تحديد المشهد العام للصراع، يكشف خطاب الأسد في 25 آب/ أغسطس 2011 عن نسخة مبنية حديثًا من الإسلام السنّي لخلق تصوّر متجانس ومتقاطع ومترادف ومدمج عن الاعتقاد الديني وعن دعمه النظام.

يأتي هذا الانحراف الواضح عن العلمانية في تأكيد الرئيس أن “الدين والقومية هما نظيران”. من خلال هذا الارتباط، أكد الأسد أن سبب الصراع يرجع إلى الفشل الأخلاقي والإهمال الطويل الأمد لأهمية ربط الدين بالقومية. يأتي ذلك مع هجومه العنيف على هؤلاء العلماء الذين لم يقولوا إن الاحتجاج إثم وخطيئة. ومن ثم، فإن الطائفية لا تتعلق بالتنافس بين السنّة والشيعة، إنما تتعلق بالانشقاق والعصيان السياسيين. ويذهب الأسد إلى أبعد من ذلك، حيث يقوم بتصنيف صارم لأولئك الذين شاركوا في الاحتجاجات، والذين التزموا الصمت، مشيرًا إلى أن الذين شاركوا هم طائفيون، وأن الذين التزموا الصمت وطنيون. لا يبني هذا التصنيف على محاولته إضفاء الطابع الطائفي على الصراع فحسب، بل أيضًا إلى وصف الاحتجاج كله كعمل آثمٌ شرير.

في حين أن مقاربة الدولة السابقة لاحتواء الطبيعة غير المتجانسة للمجتمعات السورية كانت من خلال التعتيم على الهوية الطائفية للفرد، بدلًا من احتضانها، فأدى ذلك إلى صعود الهويات ما قبل الدولة وما بعدها بعد انتفاضة 2011، بعد انتفاضة 2011، سعى النظام للتلاعب بالخطاب الديني واستغلاله. إن اتباع هذه الاستراتيجية سمح للأسد برفض أيّ عوامل سياسية أو اقتصادية كأسباب للصراع، معتمدًا بدلًا من ذلك على كيفية فشل العلماء في توحيد السوريين ومنع الانقسام.

في محاولة النظام لزرع وتنمية الهويات الدينية كدليل على الولاء السياسي، يصبح الدّين الأساس الذي يقوم عليه إعادة بناء الوحدة الوطنية في خضم الأزمة. يعرّف الأسد كذلك الانتماء القومي باتباع رسالة النبي محمد. يقول الأسد إن التحول إلى “محمّدي” يرتبط ارتباطًا وثيقًا بكيفية بناء ملامح الانتماء، باستخدام عبارة “نحن ننتمي إلى محمد فقط”، وهو ما يخلق إحساسًا بالجماعية من خلال إعادة تشكيل محمد كقوة ملزمة وراء الوحدة الوطنية التي يمكن أن تتحدى الطائفية. يمكن أن يوضح هذا أيضًا أن الأنظمة الاستبدادية، مثل نظام البعث، لا تعتمد فقط على النصر العسكري، ولكن أيضًا على الدين كقوة تعبئة لضمان البقاء وأمننة أي انشقاق/ معارضة سياسية.

وبما أن الشاغل الرئيس للنظام الآن هو ردع أي انشقاق سياسي، فإن الخطاب الرسمي يبعث برسالة استجداء إلى السوريين، حيث يصبح الاحتجاج السياسي مرادفًا للخطيئة الدينية. تهدف هذه الإستراتيجية إلى احتواء الطائفة السنّية من خلال تحميلها مسؤولية أي معارضة سياسية، لأن الأغلبية التي احتجت على النظام تعدّ نفسها سنّية. وبهذا المعنى، يصبح الاحتواء استراتيجية أمنية ضرورية، بدلًا من المشاركة أو الإكراه أو القمع. يمكن أيضًا رؤية الاستخدام الاستراتيجي للإيمان كأسلوب للثورة المضادة في كلمات الأسد: “طريقنا إلى المقاومة هو الإيمان. الإيمان هو الأمن والأمان”. الأمن والأمان كلمتان كثيرًا ما يستخدمهما الأسد، كوسيلة للتذكير بالحالة التي كان يعيش فيها الحاضرون. ويتابع: “الإيمان هو الضمان لأبنائنا وبناتنا ولحياتنا الآخرة”. مرة أخرى، يذكر الأسد ضمنيًا أنه لا يمكن الحفاظ على الدولة البعثية إلا من خلال الإيمان، وهذا الإيمان هو الطريق إلى الجنة. هذا يربط الحاضر باللامحدود والمجهول. إن بناء هذه العلاقة المتشابكة بين الإيمان والأمن والسلامة يصبح بالتالي استراتيجية الأسد لحماية حكمه الاستبدادي.

الدين وبناء السلام والاستبداد

كان هناك نقاش عام كبير حول الدّين في المجتمعات غير المتجانسة هل كان يعمل كمحفز رئيس للصراعات الداخلية أم لا. لقد أكّد آخرون أن الصراعات المسلحة تزداد تماشيًا مع الانقسامات المتزايدة للانتماءات الدينية. في الحالة السورية، استخدم النظام الانقسام الطائفي في محاولة لتأسيس قاعدة اجتماعية قوية تخضع أيديولوجيًا لسلطته. مع تبني تجزئة الطائفة السنية، وتقسيم الأغلبية السنية إلى ثنائيات من الموالين/ غير الموالين، تتجاوز الطائفية المفهوم التبسيطي لتلاعب النظام بالطائفة العلوية.

لا تكمن تحديات حقبة ما بعد الأسد في إقامة العدالة الانتقالية فحسب، بل في بناء دولة قوية تشكل أساس شرعيتها من خلال تجاوز الانتماء الطائفي. لقد تنوعت العقود الخمسة من حكم البعث، بين استغلال الهويات الطائفية كأداة، واستمالتها، وإضفاء الطابع الأمني على مفهوم الإيمان، كأداة استبدادية يمكن حشدها من أجل البقاء. ربما ما يجب مناقشته بين السوريين -وكذلك في الدراسات حول سورية التي تختزل الهويات إلى مجرد انتماء طائفي- هو أن الإيمان هو مسألة تواصل خاص، وليس علاقات بين الدولة والمجتمع. قد يكون تمكين ديناميكية تحييد الانتماء الطائفي بدلًا من تجانس الهويات الدينية هو الخطوة الأولى نحو إنشاء مجتمع سوري متخيّل جديد، يتحدى التلاعب بالعقيدة الدينية من قبل جميع الجهات الفاعلة سواء كانت حكومية أو إقليمية أو دولية.

اسم المقال الأصلي Sectarianizing Faith: Safeguarding Authoritarianism in Syria
الكاتب رهف الدوغلي، Rahaf Aldoughli
مكان النشر وتاريخه مركز بيركلي للشؤون الدينية والسلام والدولية، BERKLEY CENTER for Religion, Peace, & World Affairs، 29 آذار/ مارس 2021
رابط المقال https://bit.ly/3m5mqBK
عدد الكلمات 1312
ترجمة وحدة الترجمة/ أحمد عيشة
Next Post

اترك رد

منتدى الرأي للحوار الديمقراطي (يوتيوب)

أبريل 2024
س د ن ث أرب خ ج
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
27282930  

Welcome Back!

Login to your account below

Retrieve your password

Please enter your username or email address to reset your password.

Add New Playlist