يظهر في الخرائط الأجنبية التي تتحدث عن دمشق في الفترة السابقة على الإسلام حي كبير يحتل الجانب الشرقي من المدينة داخل السور يسمونه «الحي النبطي»، وهذا الحي الذي يحتل موقعه اليوم حي باب توما وحي باب شرقي، بني في زمن الأنباط، في القرن الأول قبل الميلاد، واستمر اسمه حتى العصر الأيوبي، ويعتقد أن المهندس المعماري أبولودور الدمشقي ينتمي له، إذ تشير بعض المصادر إلى أنه كان نبطي الأصل، وكذلك المعتمد المالي للإمبراطور هرقل في دمشق منصور بن سرجون الذي يتهم بمساعدة المسلمين في فتح المدينة. فما قصة هذا الحي؟ ومتى نشأ؟ ولماذا احتفظ باسمه حتى العصور الإسلامية؟
تهديدات
كانت مناطق جنوبي سوريا بعيدة إلى حد كبير عن العاصمة السلوقية أنطاكية، ولم تكن سلطة السلوقيين فيها قوية بسبب قوة المشيخات والممالك العربية المحيطة بها، فقد مدت السلالة العربية الحمصية بزعامة شمسي جرم نفوذها حتى يبرود، على بعد 70 كيلومتراً شمالي دمشق، وبسطت المملكة الإيطورية نفوذها من البقاع وجبال لبنان إلى القلمون ووادي بردى، ووصل نفوذ الأنباط إلى دمشق ذاتها. وبحسب المصادر التاريخية لتلك الحقبة، فقد سعى الملك السلوقي أنطيوخس الثاني عشر إلى جعل دمشق عاصمة له، ولكنه خسر المعركة أمام الملك النبطي حارثة الثالث في عام 87 قبل الميلاد، ونتيجة لذلك دعا الدمشقيون الملك النبطي لحماية المدينة من زحف الإيطوريين المشهورين بالعصيان، وقطع الطريق واللصوصية. وتشير المعطيات الأثرية المبدئية إلى أن حدود مدينة دمشق في الحقبة السلوقية لم تكن تتجاوز معبد زيوس- حدد غرباً، وهو المسجد الأموي حالياً، وباب توما شرقاً، والسور الحالي شمالاً، والشارع المستقيم جنوباً، ففي هذه المساحة التي لا تشكل أكثر من ثلث دمشق داخل السور، بنى السلوقيون الشارع المعمد، وهو شارع القيمرية حالياً، الذي يمتد من باب جيرون، المحاذي لمقهى النوفرة، إلى الأغورا التي تقع حالياً في حارة الجورة.
موقع الحي النبطي
بنى الأنباط حياً خاصاً بهم في الجزء الشرقي من المدينة، خارج السور السلوقي، في ما يعرف اليوم بحيي باب شرقي وباب توما، ودعي هذا الحي باسم الحي النبطي، حيث احتفظ باسمه مع تحوير بسيط أيام مؤرخ دمشق الكبير ابن عساكر في القرن السادس الميلادي، إذ يذكر في الجزء الثامن والثلاثين من «تاريخ دمشق» ما يلي: «قرأت في كتاب أبي الحسين الرازي، في ذكر الدور في دمشق قال: دار عثمان بن عبد الأعلى بن سراقة الأزدي في النبيطن، بحضرة مسجد الحردانة، مما يلي شام (شمال) الزقاق الآخذ إلى حمام حسين الحمال، مع الحمام مع دار ابن خزيم إلى حائط المدينة، والدار التي كانت لأبي كلها مع ما يليها إلى دار ابن الذهبي، كانت عند دار عبد الرحمن بن سراقة، وكان عثمان بن سراقة أمير دمشق في أيام الوليد بن عبد الملك بن مروان. قال وحدثني إبراهيم بن محمد بن صالح قال: سألت أبا علي عبد السلام ابن الجرجاني، لم سمي مسجد الجردانة؟ فقال لي إن أباه حدثه أنه لما كان في آخر دولة بني أمية، طلب من كان من مواليهم وأحلافهم فهرب أهل قرية جردان هذه التي في الغوطة إلى النبيطن، وإنما سمي النبيطن لأنه كان لا يسكنه غير النبط، فعمروا أهل جردان هذا المسجد، فنسب إليهم فسمي مسجد الجردانة».
أما موقع هذا الحي فقد ذكر ياقوت الحموي بأنه قرب المربّعة، وقنطرة بني مدلج، وسوق الأحد في شرقي جيرون قرب الأساكفة العتق. وحدده ابن عساكر في الجزء الثاني من تاريخه بقوله: «الكنيسة المصلبة (كنيسة حنانيا) باقية إلى اليوم بين الباب الشرقي وباب توما بقرب النبيطن عند السور. والناس اليوم يقولون النيبطون.
مدن الديكابوليس
ورغم أن الملك الأرمني ديكران قد ألحق دمشق بحكمه في عام 72 قبل الميلاد، وأنهى النفوذ السياسي النبطي، إلا أن هذا النفوذ عاد من جديد بعد إخراج ديكران من دمشق على يد الرومان، إذ شجع القيصر بومبي في عام 64 قبل الميلاد على تشكيل تحالف بين مدن الديكابوليس (المدن العشر) بزعامة دمشق لمواجهة مخاطر العصيان اليهودي، وهذه المدن كانت تمتد من دمشق إلى عمان في شرقي الأردن، ومع ذلك بقيت هذه المدن رغم ذلك، خاضعة بشكل أو بآخر للأنباط.
ولا شك في أن ارتباط دمشق بالمملكة النبطية تعزز أيام حارثة الرابع (9 ق.م – 41 م) الذي حول مدينة ضمير شمالي دمشق إلى مركز نبطي ماتزال آثاره باقية حتى اليوم، كما وسع نفوذه إلى مدينة صيدا، وبنى ميناء نبطياً في إيطاليا ذاتها في مدينة بوتيولي قرب نابولي.
ونقرأ في الرسالة الثانية لبولس الرسول إلى أهل كورنثوس المكتوبة حوالي عام 55 ميلادي ما يلي: «في دمشق والي الحارث الملك كان يحرس مدينة الدمشقيين يريد أن يمسكني فتدليت من طاقة في زنبيل من السور ونجوت من يديه» (كورنثوس 2/ 11، 23-33).
تفسير نبطي لاسم دمشق
وفي تأكيده على علاقة الأنباط الوثيقة بدمشق؛ يقول الفيلسوف الدمشقي دماسكيوس (458 – 538 م) محاولاً تفسير اسم مدينته دمشق، بقوله: «يدعو الأنباط ديونيسيوس باسم دوساريس (ذو الشرى). انتصر ديونيسيوس على ليكورغوس وأتباعه العرب من خلال رش جيش العدو بالنبيذ من الزقّ الجلدي، ولهذا فقد دعا المدينة باسم داماسكوس». أي الاخضاع بزق الخمر. ومن المؤكد أن دماسكيوس يعرف النبطية جيداً، لأن معنى إخضاع باللغة النبطية هو دما، والزق هو زقّا. وهذا أحد التفسيرات ولكنه لافت للنظر، لارتباطه بالإله النبطي (ذو الشرى) إله الخمر النبطي الذي يتماهى مع ديونيسيوس إله الخمر عند الإغريق، بينما يتماهى الإله النبطي الكاره لشرب الخمر «شيع القوم» مع ليكورغوس.. بحسب بعض الباحثين. وطبعاً اسم دمشق أقدم من ذلك بكثير، بل هو موجود في ألواح العمارنة قبل الأنباط بأكثر من 1300 عام، وفي الرقم الآشورية أيضاً.
خالد بن الوليد ومنصور بن سرجون
بقي الحي النبطي معروفاً باسمه طوال العهد الروماني وحتى العهود الإسلامية المتلاحقة، ويبدو أنه كان مكان سكن منصور بن سرجون الدمشقي، الذي فاوض خالد بن الوليد على الدخول إلى المدينة صلحاً من باب شرقي، علماً أن منصور بن سرجون هذا كان هو المعتمد المالي والحاكم للمدينة لصالح البيزنطيين، وكما هو معروف فقد كان منصور عربياً، وربما نبطياً، وأصبح وزير معاوية بن أبي سفيان بعد أن أصبح والياً ثم خليفة للمسلمين. وتروي المصادر الكنيسية أنه ساعد المسلمين في دخول دمشق، وأيضاً في معركة اليرموك، رغم أنه كان مسيحياً على المذهب الملكاني.
كاتب سوري/ فلسطيني
“القدس العربي”