ألقيت هذه الكلمة في اللقاء الذي نظمه متحف جامعة بير زيت ومكتب رام الله في مؤسسة الدراسات الفلسطينية في الواحدة من بعد ظهرالأربعاء 13 تشرين الأول – أكتوبر، بمناسبة صدور العدد 128- خريف 2021 من مجلة الدراسات الفلسطينية، وهو عدد خاص كتبه الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال، وحمل عنوان: «كلام الأسرى.. عيون الكلام».
أهلاً وسهلاً بكم جميعاً في مجلة الدراسات الفلسطينية، وشكر خاص لجامعة بيرزيت ومتحفها، وللأخت رنا بركات، ولمكتب رام الله في مؤسسة الدراسات، الذين قاموا بتنظيم هذا اللقاء.
قبل أن أبدأ، أريد التنويه بالعمل الكبير الذي قامت به سكرتارية تحرير المجلة: أنيس محسن وناهد جعفر، اللذان عملا في ظروف بيروت الصعبة والمرهقة من أجل تحرير المادة كي يصدر العدد في موعده، وكي يكون من حيث الشكل والمضمون عدداً يليق بعنوانه: «كلام الأسرى… عيون الكلام».
كما أود التنويه بالجهد الخاص الذي بذله أخي وصديقي عبد الرحيم الشيخ، الذي كان له الفضل الأول في إعداد مواد هذا العدد. وعبد الرحيم، كما تعلمون، يلعب دوراً كبيراً في حفر نفق العلاقة بين الثقافة والمناضلات والمناضلين الذين يكتبون بصمودهم ونضالهم ثقافة جديدة مجبولة بالألم والحلم.
ما أريد الإشارة إليه هو أن هذا العدد ليس عدداً تكريمياً، فنحن لا نكرم الأسرى، بل نتكرم حين نستمع اليهم ونخاطبهم. لم نكن في صدد صوغ أرشيف عن الحركة الأسيرة، أو تقديم شهادات عن المعاناة، بل كان هدفنا هو الاستماع إليهم والتعلم منهم ومناقشتهم، فقد كتبوا وتكلموا بصفتهم مناضلين وقادة، وقدموا تحليلهم ورؤيتهم للواقع الفلسطيني.
هذا العدد هو دعوة إلى فتح باب النقاش، ومحاولة لسد ثغرة الغيبوبة الفكرية التي فرضها زمن أوسلو والانقسام، والانطلاق من هبة القدس ومعركة سيفها وصولاً إلى نفق الحرية، من أجل أن نستمع إلى لغة الأرض المجبولة باحتمالات الحرية.
قال لي أحد الأصدقاء وهو يمسك بالعدد الجديد من المجلة، إنها صدفة عجيبة أن يصدر العدد في الوقت الذي سرقت فيه قضية الأسرى الاهتمام، بسبب تزامن صدور المجلة مع نفق الحرية، وما أثاره هذا النفق من مشاعر التضامن مع قضية الأسرى.
سؤالي هو: هل كان توقيت صدور هذا العدد مجرد صدفة؟
نعم؛ لأن فكرة هذا العدد وُلِدت من سنة، أما العمل لإعداده فبدأ منذ ستة أشهر، أي قبل أن يخطر في بال أحد بأن نفق الحرية آتٍ بكل ما يحمله من دلالات.
ولا؛ لأن لحظة اللقاء جاءت تعبيراً عن أرض واحدة عملنا عليها من ناحيتين مختلفتين لكنهما متناغمتان.
نفق الحرية لم يكن حدثاً مفاجئاً للذين قضوا الأيام والليالي وهم يحفرون بالملاعق.
وعدد المجلة لم يكن مجرد طفرة، بل أتى تتويجاً لعمل دؤوب كان يسعى إلى البحث عن لغة ثقافية وسياسية جديدة، وسط أفول اللغة السائدة.
لقاء هاتين اللحظتين لم يكن صدفة بقدر ما كان ضرورة.
لا أستطيع أن أتكلم عن الفدائيين الذين حفروا النفق، فإنجازهم يتكلم عنهم، وصمودهم اليوم في مواجهة التعذيب يصوغ لغة لم تألفها اللغة، لأن كلماتها مصنوعة من مزيج الصمت والفعل، والإرادة والتحدي.
ولكني أريد أن أشير إلى فكرتين أساسيتين تتشكلان اليوم كسؤالين ثقافيين:
الفكرة الأولى هي كيف نتخلص من جثة اللغة السياسية الميتة، وكيف ننتج ثقافة جديدة تعيد المعنى إلى المعنى، فتجد كلمات: «الحرية والتحرر والديموقراطية والفدائي والمقاومة والصمود» معانيها. وأنا لا أتكلم هنا عن الإطار الفلسطيني فقط، بل أتكلم عن لغة العرب وواقع المشرق العربي الذي يطحنه الاستبداد والاحتلال، وتدمر فيه الحياة والقيم والمعاني.
والفكرة الثانية هي من أين نبدأ عملية تحررنا من جثة هذا الواقع بكل ما فيه من تعفن وخراب روحي ومادي؟ هل نعود إلى الماضي ونلجأ إلى زمن البدايات بما حملته من وعود؟ أم أن هذه العودة ستكون استبدالاً لليأس باليأس.
اقتراحنا كان أن ننظر إلى الأرض ونبحث ماذا يوجد تحتها؟
نحن لسنا علماء آثار كي نحفر بحثاً عن الماضي، لكننا لاحظنا أن تحت فلسطين هناك فلسطين أخرى مطمورة ومهمشة، أو كما عبر عبد الرحيم الشيخ: هناك جغرافيا سادسة علينا أن نكتشفها.
لكن، ورغم أننا بحثنا في هذا العدد عن فلسطين تحت فلسطين، فإننا على اقتناع كامل بأن تحت كل بلد عربي هناك بلد آخر، وأن هناك جغرافيات علينا أن نعيد اكتشافها.
نظرنا إلى ما هو محجوب ومنسي فوجدناهم، حفرنا قليلاً في أرض اللغة، فاكتشفنا أنهم حولوا التراب إلى كلمات، وتوغلوا في العتمة كي يصلوا إلى شمس الحرية.
الكلمات أرض وتراب، لأن الأرض والتراب يصنعان اللغة ويصوغان الكلمات.
وكما حفروا في الأرض فإنهم يحفرون في اللغة، في الأرض وجدوا نوراً وفي اللغة وجدوا روحاً.
انحنت الكلمات لهم، وتركنا لهم كل الصفحات كي يكتبوها كما يشاءون. في ندوتهم ومقالاتهم وشهاداتهم أحسسنا بأن اللغة لم تعد آلة قمع كما هي على أيدي المتسلطين، بل صارت أداة تحرر وحرية.
لم يكتبوا معاناتهم وآلامهم فقط، بل كتبوا رؤية جديدة لفلسطين وأعادوا للكلمات إيقاعها ودلالاتها.
منهم نتعلم، وبهم تليق الأبجدية.
وإذا كان لي أن أقترح استنتاجاً خرجنا به كهيئة تحرير مجلة الدراسات، فهو أن علينا أن نحفر في اللغة والتاريخ وعلم الاجتماع والاقتصاد والسياسة والأدب، على الثقافة اليوم أن تحفر نفق حريتها كي يحق لها أن تزامن نفق الحرية في جلبوع.
“القدس العربي”