ثمة سؤال يتردّد.. إن كان العالم قد عزل نظام الإبادة الأسديّ، وأشهَر لا شرعيّته لارتكابه جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وأقرّ عقوبات دولية بحقّه لوحشيّته، فهل تغيّر شيء في سلوكه لإعادة تدويره وشرعنته على الرغم ممّا يحمل من أوزار جرائم موثّقة لا عدَّ لها ولا حصر؟ وقد يُظنّ أن لَوثة أصابت بعض حكّام العرب، ومشغّليهم في الغرب، أو أنهم يسيرون في متاهات لا يعرفون لها مخرجاً! والحقّ أن كليهما على صواب، إن عُلِمَت المآزق التي صاروا إليها، بعد أن أعملوا جهدهم لإجهاض ربيع شعوب أرادت الحرية والكرامة والديمقراطية، ونَبَذت أنظمة القهر والتخلّف والاستبداد والإبادة.
فعندما أعلن ترامب أواخر 2018 رغبته الانسحاب من سورية، سارع بعض العرب للتطبيع مع النظام، بذريعة “تعزيز الدور العربيّ وتفعيله من أجل الحفاظ على استقلال سورية وسيادتها ووحدة أراضيها ومنع مخاطر التدخّلات الإقليمية في شؤونها الداخلية، بما يعزّز الأمن والاستقرار فيها، ويحقّق للشعب السوري الشقيق طموحاته في السلام والتنمية والتقدّم”، متناسين أن أيّ دور عربي، في مواجهة الدور الإيراني، لا تسنده قوة على الأرض، لا يعني شيئاً ألبتّة في ساحة الصراع المتأجّج إقليمياً ودولياً، وتعثّرت خطواتهم بعد التلويح بقانون “قيصر” وتأجيل الأمريكان انسحابهم، ووجدوا ضالّتهم– وبدفع أمريكيّ- بالتطبيع مع “إسرائيل”؛ لتغيُّر طبيعة الصراع في الخليج والمنطقة، والتحالفات والتوازنات الدولية، وتبدُّل أولويات إستراتيجيّات القوى الدولية واحتدام صراعاتها. وكأنما أقدموا على خطوة معادِلة، في الوقت المستقطَع، لمحاولة تطبيعهم مع نظام الإبادة الأسديّ، فكانت “اتفاقات إبراهام” بدءاً بالإمارات والبحرين، مروراً باتفاقات أولية مع السودان، وصولاً إلى التوقيع مع المغرب وتلويح حفتر بالتطبيع مع إسرائيل ليحكم ليبيا!
لهذا، وغيره، تتسابق أنظمة عربية للإمساك بتلابيب النظام والاعتذار عن “خطيئتها”، وتغمض عواصم القرار أعينها عمّا يحدث، خدمة لمصالحها، مُتناسية حدودها الأخلاقية، أمّا العرب فيطبّلون ويزمّرون لقطع الطريق على تركيا المحتلة – وهي تضغط للتوافق مع النظام إحراجاً لأعدائها وسحب البساط من تحت بعض أصدقائها- ومواجهة إيران الطامعة، ولكن عبر خدمة إسرائيل لا عبر مصلحة شعب سورية، ويعلمون أن ما يُرسَم استُبعد منه السوريون قبل العرب، وأن ما سيكون يقرّره الأقوياء لا مَن يعملون في السياسة على طريقة “المجاكرة”، إذ يقرؤون سورية قراءة “المكايدة” بالأتراك من جهة، ومَن يعارض النظام السوريّ، وأوّلهم السوريون، من جهة أخرى. فيطبّعون مع إسرائيل التي تنفّذ سياستها وطموحاتها الجيوإستراتيجية بقوّتها عبر حلفاء عرب، مقابل حماية مفترضة من عدوّ يقدّمها على كلّ أعدائه، ويجعل منها هدفاً لابتلاع كيانات “مشايخ” هزيلة، على غناها، خلقتها المصالح الاستعمارية؛ لتكون وظيفيّة في أهمّ جزء يحتاجه العالم. ووفق تبادليّة المنافع بين الجميع على حساب الدم السوري وثورته، تطبّع أنظمة عربية مع إسرائيل حفاظاً على مصالحها وبقائها، ويطبّعون مع نظام الإبادة، الذي عملت إسرائيل على إبقائه عرفاناً بجميل حماية حدودها منذ 1973، ليكون عنصراً وظيفياً – وبشكله المنحطّ – في خدمة أهداف الجميع! فلا هو حيّ يُرتَجى خيره، ولا هم يتركونه يموت، فتندثر أوزاره معه، ويحيا السوريون، كما يستحقّون، سادةً أحراراً.
إنهم يتسابقون في استغلال موته السريريّ، لينفّذ مآربهم. فإنْ كان ملك الأردن أو حاكم الإمارات، أو غيرهما ممّن تضيق المساحة لذكرهم، عمل ويعمل لتدوير النفايات وتعديل سلوكها باستعادة النظام إلى “حظيرة” العرب، فما هو إلا خلط مرحليّ نفعيّ لأوراق لم تكن يوماً بأيديهم، بل يعملون بضوء أخضر من أصحاب القرار الذين اكتفوا بالعقوبات، وأسمعونا قلقهم ولا رضاهم، بينما تُعقد الصفقات بعلمهم وتحريضهم، وتمهّلوا بالمحاسبة والسداد، ليزيدوا نظام الإبادة امتهاناً، فيكون خادماً طيّعاً في مشاريع القوى الدولية والإقليمية-الاقتصادية والسياسية- مع استمرار مجازره وتهجيره للسوريين وقهرهم وطحنهم برحى العوز والمعاناة، وليس مشروع الغاز الإسرائيلي أولها، ولن يكون الكهرباء المصري آخرها، وربما- لاحقاً- إدماجه في مشروع “الشام الجديد”، أو المشروع الإماراتيّ الإسرائيليّ اليونانيّ القبرصيّ، أو جعل الإمارات، استرضاءً، بديلاً لقوات التحالف الدولي شمال وشرق سورية، فتتحقّق طموحات ابن زايد في مواجهة تركيا، وهو يقود قسد عبر “أزلامه” من عشائر الجزيرة، وبالتنسيق مع النظام وحلفائه، أمّا إيران فتتكفّل بها إسرائيل ومن ورائها أمريكا وروسيا.
إنْ تهافتَ بعض العرب للتطبيع مع إسرائيل اليوم، فإنهم سيعضّون أصابع الندم مستقبلاً، أمّا تكالبُهم واهمين للتطبيع مع نظام الإبادة الأسديّ، فلن يمكّنهم وضعه من المراجعة. إذ يخالون ترويضه لتأهيله، ولكن هيهات.. لا قرارَ لمن ارتهن وباع سيادته، إذ لا مناص من استئصاله، وهو ما سيقوم به السوريون بتوحيد مواقفهم، وحشد قواهم، ووعيهم لما يُحاك لوطنهم ومستقبله.
-
رئيس التحرير