في يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول تم الإعلان عن الفائز بجائزة نوبل في الأدب 2021 على لسان ماتس مالم السكرتير الدائم للأكاديمية السويدية. وفي عالم أشبه بالقرية الصغيرة، انتشر الخبر انتشار النار في الهشيم، تتناقلُه الجرائد والصحف الإلكترونية، وتردِّدُ صداه مواقع التواصل الاجتماعي.
فوز بصبغات متعددة
وانتشرت ردود الفعل، تطبعها في ربوع افريقيا وآسيا والأوطان العربية والإسلامية صبغة متعددة. فهاذا تنزانيٌّ يكاد يطير فرحا لفوز مواطنه، وهذا افريقيٌّ يمِيدُ من الطرب لفوز ابن قارته، وذاك يرقص طربا لفائزٍ من عرقِه ولونه. وها هي صفحات رفقائنا من شمال افريقيا وآسيا تصبَغ الفوزَ صبغة دينية، وكيف لا تفعل والفائز بأكبر جائزة في الدنيا عبد الرزاق، الاسم العربي المشتق من أسماء الله الحسنى، وهو أخ من لحمهم ودمهم، ويدين بدينهم.
ثقافة عالمية
هكذا استقبلت أوطاننا فوز عبد الرزاق بجائزة نوبل. كل ينظر إليه حسب هويته وملته. فكيف يا ترى ينظر هو إلى فوزه؟ سأله يوما إعلامي عن رأيه فيمن يعتبر الثقافة العالمية مقسمة إلى ثقافة بلدان الشمال وثقافة بلدان الجنوب. فقال «يتعلق (التقسيم) بالمواقف، والفهم، والتوقعات» مؤكدا أنه لا مبرر لذلك، مستشهدا بالصين، «فقد يكون لديك أجزاء من الصين غنية مثل الغرب وأجزاء ليست كذلك». فالاختلافات الثقافية قد توجد داخل البلد الواحد، بل داخل المدينة الواحدة، ما بالك بالعالم برمته. ونحن غالبا ما نفكر في الثقافة من منظور جغرافي. وإن كنا لا ننكر الأثر الجغرافي، إلاَّ أن الثقافة تبقى ظاهرة إنسانية أكثر منها جغرافية. فالإنسان بطبعه يتأثر بالبشر الذين يتفاعل معهم في مسار حياته، أكثر من المحيط الجغرافي الذي ينتسب إليه. وفي عالم النت والسوشيال ميديا، ها هي ثقافات الدنيا اليوم تحتك وتتفاعل وتنصهر في ما بينها نحو ثقافة عالمية متآلفة، تبنى على أساس المشترك الإنساني وضمن رؤىً أكثر شمولية. وثقافة عبد الرزاق الذي صرف أكبر شطر من عمره في بريطانيا، واحتك فيها بكل أعراق الدنيا أوسع وأشمل من أن تُحصر في إقليم جغرافي، أو أن تقرن بانتماء قومي، أو أن تصبغ صبغة دينية.
الأثر البريطاني
كثيرا ما ننظر إلى أوطانٍ أصلية نفرّ منها لقساوة الحياة فيها، وننسى أوطانا جديدة فتحت لنا آفاقا واسعة، ووفّرت لنا الأجواء الملائمة لبناء الذات وتحقيق الأحلام وتشييد المستقبل. ونحن بذلك أشبه بأولئك الذين ينظرون إلى فضل أمهات بيولوجية تركن صغارهن في سلات المهملات، وينسون فضل أمهات قمن بإنقاذهم وسهرن على تربيتهم وإعدادهم للتفوق في الحياة. فقد كان للبيئة الجديدة المتمثلة في بريطانيا التي هاجر إليها عبد الرزاق غورناه لاجئا وهو صغير، بالغ الأثر في بلورة أفكاره وانفتاحه على الثقافات العالمية وقدرته على الكتابة بلغة العالم الإنكليزية. ولنكونَ صريحين، نتساءل: هل كان سيحقق فوزه لو بقي في جزيرته، وكتب بلغته التي كان يتقنها، السواحيلية؟ فضل بريطانيا لا يكمن في الكتابة بالإنكليزية وحسب، بل أيضا في أفكار جديدة نابعة عن البيئة الجديدة جسدتها رواية «عن طريق البحر» الصادرة عام 2001 حيث استقى أفكار القصة من إنكلترا التي كان يحط فيها اللاجئون، وهو ما صرح به عندما سأله إعلامي كيف خطرت فكرة الرواية على باله، «عندما وصلت حرب أفغانستان ذروتها في أواخر التسعينيات، وصلت طائرة مختطفة في لندن، كانت في رحلة داخلية… بعد يوم واحد، طلبوا جميعا اللجوء وسألت نفسي ما الذي يريده هذا الرجل العجوز حقا. هل فهم ما كان يطلبه؟ لقد كان اللجوء بالنسبة لي شيئا مخصصا للشباب وحتى العائلات، لكن ليس لكبار السن. بدأتُ أفكر في أسبابه، وفي الأسباب العامة لمغادرة البلد الأصلي وطلب اللجوء.. فطلب اللجوء أثار فيّ حب الاستطلاع لمعرفة أي نوع من اليأس يدفع المرء للإقبال على ذلك».
الأثر البريطاني لا ينحصر في ما نشاهده ونسمعه ونتعلمه، بل يتعداه ليشمل أيضا الشعور بالحنين الجارف إلى مهد الصبا، وهو من سمات الأدب المهجري. تنقضي الأحداث، وتندثر العلاقات، وتموت العواطف، وتنتحر الأشواق، ولا يبقى ثابتا مدى الحياة إلاّ الذكريات.
عالم من زوايا مختلفة
وهكذا فقد نبعت فكرة الرواية هذه من تدفق اللاجئين على الجزر البريطانية التي وصلها قبل أيام 1100 لاجئ في ظرف 48 ساعة فقط! الأثر البيئي يتضح أيضا في القدرة على مشاهدة العالم من زوايا مختلفة، وهو ما نكتسبه في بريطانيا بحكم تنوعها الديمغرافي المذهل. صحيفة «الغارديان» البريطانية تشير إلى هذا التنوع والتوازن الرائع: «أعطى المنفى غورناه منظورا عن التوازن بين الأشياء، مذهلا ورائعا». وهكذا، لا يكتفي عبد الرزاق بعرض قصته من جانب اللاجئين وحسب، بل يسعى أيضا لتصوير وجهة نظر البريطاني نفسه وهو يواجه ضغوطات الهجرة غير الشرعية، حيث تنفق مصلحة الهجرة البريطانية أموالا طائلة وجهودا ضخمة للتعامل مع ملفات هؤلاء، ويضطر رجالها للعمل في ظروف صعبة ولساعات طويلة لأداء مهامهم، وهو ما لمستُه شخصيا من خلال عملي الطويل في الترجمة لدى هذه المصلحة. يقول عبد الرزاق «بعد يومين، شاهدت برنامجا على التلفزيون، فيلما وثائقيا عن عمل ضابط الهجرة، الذي تبعته الكاميرات في عمله. نراه وهو يستجوب طالب اللجوء، ما يجعلك تفكر أكثر في الموضوع وفي الكتابة عنه. وعندما تركّز على الموضوع وتملك المادة، تتضح لك معالم القصة شيئا فشيئا، فتشرع في النهاية في الكتابة. هذا ما حصل عموما في رواية «عن طريق البحر».
وتستفيق ذكريات الماضي
الأثر البريطاني لا ينحصر في ما نشاهده ونسمعه ونتعلمه، بل يتعداه ليشمل أيضا الشعور بالحنين الجارف إلى مهد الصبا، وهو من سمات الأدب المهجري. تنقضي الأحداث، وتندثر العلاقات، وتموت العواطف، وتنتحر الأشواق، ولا يبقى ثابتا مدى الحياة إلاّ الذكريات. تتدحرج هذه الذكريات إلى أغوار أنفسنا، وتستقر في أعماق لا شعورنا، مستغرقة في السبات، وفي يوم ما تستفيق فينا، فتذكي نار الحنين والألم في نفوسنا، وتؤثر في مواقفنا وتصرفاتنا. وهذه الذكريات في سلوكها هذا أشبه بالبركان الساكن الذي تتلاطم في باطنه الحمم، بعيدا عن أعيننا، ليثور يوما، تتدفق منه حمم الذكريات الحلوة والمرة. فها هو بركان ذكريات عبد الرزاق ينفجر في الجزر البريطانية، تندفع منه حمم العطاء والإبداع لتسجل بأحرف من ذهب كتابات واقعية تفيض بأنبل المشاعر وأصدق المعاني، وهو ما يتردد في كامل مؤلفاته. يطير بنا إلى مهد الصبا وإلى سنوات الدراسة، «بحلول موعد التوقف عن الذهاب إلى المدرسة القرآنية، كان في وسعي قراءة القرآن بطلاقة، دون أن أفهم الشيء الكثير» ويعود بنا إلى بداية مشواره في عالم الكتابة عندما كتب قصة قصيرة لقيت استحسان المدرسة، «لقد أعجب بها أستاذي، فعرضها على مدير المدرسة، الذي طلب مني تقديم نسخة بخط أفضل ـ إذ لم يكن لدى المدرسة آلة كاتبة ـ ليتم عرضها على لوحة الملاحظات ليستمتع بمشاهدتها الجميع».
وتتدفق سيول الذكريات كالأنهار في رواية «قلب من حصى» تاسع رواية له، إصدارات 2017 وتروي قصة سليم الذي يهاجر من جزيرة زنجبار في تنزانيا إلى الجزر البريطانية يحمل معه هموم الطفولة وذكريات مؤلمة عن والديه المنفصلين. الرحيل عن الأوطان والأهل والأحباب من أصعب تجارب الحياة، وما قد يزيد الطين بلة والنار سعيرا والألم حدة، أن يرحل الطفل عن وطن لم يشعر فيه يوما بحنان الوالدين، وهو ما تجسده رواية «قلب الحصى» فلشدة ما تعرّض له بطل القصة من معاناة، ألف الحرمان ولم يعد يكترث له، «ربما كنت سأستنتج في مرارتي أنه لا يوجد شيء استثنائي في العيش دون حنان الأب. وقد يكون الاستغناء عنه أمرا مريحا. وما أقسى الآباء إن نشأوا هم أيضا محرومين من حنان والدهم».
تجاوز البعد القومي
ما يلفت الانتباه في مؤلفات عبد الرزاق أنها تفيض بذكريات الماضي، حيث يرحل الكاتب بوجدانه إلى وطنه الأصلي ويحط في داره وبين أهله وأحبته، إلاَّ أنها تتسم بتجاوزها البعد القومي. فبريطانيا المعروفة بتعددها العرقي وتنوعها الثقافي كان لها عميق الأثر في هذه الكتابات التي ما فتئ يطبعها التحرر من أغلال القومية، والانفتاح على الآخر والتسامح والإيمان بوحدة الجنس البشري والمحبة والإنسانية، وهو القائل، «نحن أقرب بكثير إلى بعضنا بعضا مما نعتقد، مرتبطين نسبيا، على الرغم من الاختلافات». وكما تقول إحدى شخصياته: «كلنا أبناء الأرض».
٭ كاتب من الجزائر
“القدس العربي”