الأديب قبل ان يكون كذلك، هو كائن اجتماعي فذّ. بهذا الشكل يتميز الأديب في ما يتصل بمكونات المجتمع. والسياسة هي أحد أكثر ظواهر المجتمع البشري، حتى إن أحدهم، وهو يتفذلك بنظره إلى الحياة، وصفَ الإنسان بأنه حيوان سياسي.
٭ ٭ ٭
وصف الحيوان هنا يتصل بالعفوية والفطرة غير المنسجمة وغير القابلة للتدجين. وهي الطبيعة التي تجعل الإنسان مندفعاً بالغريزة الرعناء التي سترى في السياسة فعلَ فضيحة دائمة، عصية على التردد، خشية التوقف عن الحياة. وليس مثل الحيوان قدرة على تمييز اللون الأخضر، لكي يذهب إليه بالغريزة، من بين الألوان كلها.. ففي الخضرة شيءٌ من حياة الكائن.
٭ ٭ ٭
كأديب، بوصفك الإنساني، من حقك ممارسة السياسة. ليس ذلك حسب، بل إن السياسة هي فعلك الطبيعي في المجتمع، السياسة هي خصوصاً واجبك كوحش يخرج من الغابة وعليها. المهم هنا أن تضع الأدبَ في المرتبة الأولى دائماً، والسياسة بعد ذلك.
٭ ٭ ٭
ولتدع الكائنات الاجتماعية الأخرى وضع السياسة في المراتب التي تناسبها.
فأنت أديب، وفنان. موهبتك الإبداعية تأتي أولاً، ليس فقط لأن موهبتك الأصلية هي الأولى، لكن خصوصاً لأنك لن تحسن شيئاً آخر، مهما زعمتَ وتوهمتَ. وبالتالي لن يحل مكانك شخصٌ آخر مهما تميز بالمواهب.
٭ ٭ ٭
المبدع في حقل موهبته ـ منغمساً في انهماكاته السياسية ـ سيكون، وهو يبدع في الفن الذي يُحسنه، أكثرَ فعالية وحيوية لمصلحة قضيته السياسية التي يُؤْمِن بها.
إلى ذلك، فإنهم من المتوقع أن يعثروا على عشرات الناشطين السياسيين الذين يحسنون دورهم النضالي المباشر، في وقت ليس من المتيسر لهم مصادفة موهوب مبدع في الأدب والفن.
٭ ٭ ٭
شرط الفن، إذن، هو ما يتوجب على الأديب التشبث به، وعدم التضحية به لصالح أي شأنٍ آخر، العمل السياسي خصوصاً، إذا كان يرغب فعلاً الانتصار لقناعاته السياسية مناضلاً من أجلها.
٭ ٭ ٭
نقول هذا، ونكرره ونؤكد عليه، بين وقت وآخر، لئلا يظن البعض، أو يتوهم البعض، أو يخطئ البعض الآخر، بالوقوع في براثن النظرة الطهرانية، حين يتعلق الأمر بالعلاقة العميقة بين الأدب والسياسة. فتقاطع الأديب، حياتياً، سيحدث مع السياسة بوصفها حركة الجوهريّ، وليس باعتبارها حركة الحدث اليوميّ العابر السطحي المتغير. تلك هي السياسة في العمل الفني والأدبي، حيث المبدع، كإنسان، هو أيضاً، حيوانٌ سياسيٌ فذّ، خارج غابة الحشد الجمعي.
٭ ٭ ٭
نقول هذا، خصوصاً، نجاةً بالمبدع من الحماقات التي يقع فيها السياسي، فيما لا يتوقف عن ذلك، ولا يكفّ.
دفقة قانية
قلت لك: أسقيك ما يروي الرمل
ويشبع الحجر
قلت لك الخبر
لكي أفتح لك الدفتر وأكتب لك الأحلام
قلت لك الحمام يطير في قمصانك
ويمنح الأبيض ألوانك
فلا تتأخري عن النوم
هناك الجنون في انتظارك
وسحر القلب في جوارك
والعناقات الطازجة تسبح في أنهارك
فيا سهام وسعاد وشهرزاد
يا أسماءك الحسنى
تشبثي بكأس لذتك
واعبري جحيمك إلى جنتك
فصداقة الحريق تحت شرفتك
فافتحي التفاح لي
أصقل لك الإبط وقرينه، بزفير اللذة،
حتى يطير الشرار من عينيك،
فتتصاعدين مثل شغف الممسوسين بالبرق.
حتى يلهج البرتقال بالأزرق.
افتحي،
تسمعين الألوان تنتخب لك العزف
وأنت تنتظرين شخصاً يذهب به الولع.
شخص،
يعرف كيف يوقظ زبدة الإبط وزفير العسل
مزيجاً في السهرة
شخص،
يجعل المسافة بين الجحيم والجنة
غيبوبة تنهر القلب وتصقله وتغويه
شخص
يرى الجسد تفاحاً في شرفة الروح.
٭ ٭ ٭
لن أتأخر عن انتظاره في منعطف تلك الحديقة القديمة. قدحه الفارغ يتوقع دفقة النبيذ الأحمر من كبدي الكسلى. ذاهب لذلك الانتظار لكي أرفع معه عبء شجرة تنحني بأكبر أغصانها على كتفه الواهنة ممسكاً بزجاج القدح البارد.
لن أتأخر عنه.
لدي كبدٌ مكنوزٌ بوجعٍ لا أقوى على تجرّعه وحدي.
ولن يطيب له نخبٌ إلا في دفقة قانية بوردة تفيض
ذاهب إليه
ينتظرني
لا أخذله
وليس للحديقة طريق سواه.
٭ ٭ ٭
خذ الملك والمملكة
خذ الفذلكة
ودعنا نعالج محتملَ الموت بالتهلكة.
دع لنا النوم
للحلم
للما تبقى من الليل يحرسنا
دع لنا
شهوة البحر تسرقنا
لا تكنْ خطوة مهلكة
ودَعنا
بعينين زائغتين
نعالج أخطاءنا الشائكة.
٭ ٭ ٭
أيهما سوف ينالني قبلاً
الموت أو الوطن
كلاهما على مبعدة من التحقق
أنجحُ
دائماً أنجح في صدّ الموت عن إدراكي
أما الوطن
فلم يتوقف منذ نجمة الوعي
عن النأي عني
وإقصائي
أو منحي أوسمة الغربة
وها أنا ذا
على مبعدة عن الاثنين
أقصى من الإدراك
أصير الهدف المستبعد لكليهما.
شاعر بحريني
“القدس العربي”