ذمت العرب الجنون ومعه الجهل والغباوة والغفلة والحماقة، وكانت ترى العاقل من انماز بالنظر إلى البعيد الغامض، فلم يتغاب عن القريب الظاهر. وليس خافياً أن ديوان الشعر العربي حمل كثيراً من الأشعار التي تدين الحمق والجنون. وفي رسالة الجاحظ (البخلاء) تظهر هوامش المجتمع من البخلاء والمتندرين إلى السطح، بأخبارهم ونوادرهم.
وسبب وقوف الجاحظ عندهم كاشفا عن حياتهم هي التساؤلات التي طرحها أحدهم عليه ومنها: ما الشيء الذي خبل عقولهم وأفسد أذهانهم وأغشى تلك الأبصار ونقض ذلك الاعتدال؟ وما هذا الغباء الشديد الذي تكون إلى جنبه فطنة عجيبة؟
والمدهش أن الجاحظ في الوقت الذي ذهب فيه إلى أن أساس العقل اقترانه بالحذر والاهتمام، واستبعاده يعني فراغ البال؛ فإنه لم يستبعد أن يكون في النسيان فضل على الذكر، وأن الغباء قد يكون أنفع من الفطنة. وفي الفلسفة المعاصرة يحتل الجنون مكانا واضحا عند منظرين كان العقل بغيتهم، فجاك دريدا مثلا نقم على التمركز حول العقل (اللوغوس) بناءً على رغبة صميمية في جعل هذا التمركز لا نهائياً ولا متعالياً، وبالشكل الذي يجعل الصوت بديلاً عن الكلمة، ويصبح الشعبي بديلاً عن الرسمي، ويحتل الطرفي موقع المحوري، مع نسف التطابق في المعنى والهوية وتقديم الأنثوية على الذكورية، وتفضيل الإدراك على العقل، والروح على الجسد والسرد على التاريخ. وواحدة من الفرضيات الدريدية التي بنيت على مفهوم الاختلاف، فرضية الكتابة أو الغراماتولوجيا التي تتكئ على اللاعقل وتنبثق من الصمت.
ولم يخف دريدا وهو أستاذ فوكو إعجابه باركيولوجية الأخير في التعاطي مع ثيمة الجنون كفلسفة بها يتزحزح العقل الديكارتي ويتفكك، فيحل محله العقل الفوكوي، واصفاً ميشيل فوكو بأنه خير مثال للعقل التفكيكي الذي يتأمل بعيداً عن العقل بأطوار غريبة من وجهة نظر النظام الديكارتي، مضيفاً، «حسب علمي فإن فوكو هو أول من قام داخل هذا التأمل بالفصل بين الهذيان وجنون الحساسية والأحلام. فقد فصل بينهما على المستوى الفلسفي، وعلى مستوى وظيفتهما المنهجية، وهنا تبرز أصالة قراءته. وما جعل ميشيل فوكو يولي ثيمة (الجنون) اهتماماً هو حفرياته في الكوجيتو الديكارتي وما فيه من قطيعة مع كل افتنان ممكن باللاعقل. ولأن ديكارت أنكر علاقة العقل باللاعقل، واستبعد الجنون الذي هو مقصي في عُرف الذات التي تشك، شبهه فوكو بمن يغلق عينيه ويسد أذنيه لكي يرى بشكل حقيقي وضوح النهار الأساسي، أو كمن يحمل مصباحا ليبحث عن شيء في وضح النهار.
وإذا كان دريدا قد عدَّ الجنون هو خطأ الحواس وغياب العمل، وبغياب العمل لا يكون للعالم نهاية، كما لو أنّ العالم بدأ هناك حيث انتهى الشغل؛ فإن فوكو نقض العقل الديكارتي نفسه، والسبب انفلات فعل الكوجيتو من قبضة الجنون، قالباً مقولة ديكارت (أنا أشك إذن أنا موجود) إلى (أنا أفكر فإنه لا يمكنني أن أكون مجنونا). ومثال دريدا في انفلات الاسم والحال هو برج بابل، الذي لا يمثل فقط التعددية غير المختزلة للغات في عدم الخضوع للترجمة؛ بل يبين عن عدم الاكتمال واستحالة الإتمام والتجميع والانتهاء من شيء هو من قبيل التشييد والبناء الهندسي والنسق المعماري.
أما مثال ميشيل فوكو في تحليل الجنون فهو سفينة الحمقى، وما عرفته ذاكرة الإنسان الأوروبي من ترابط الماء بالجنون. ووفق المنهج الأركيولوجي الفوكوي، يغدو الجنون كامنا تاريخيا في سفينة الحمقى، كسفينة غريبة جانحة، فيها المجنون محتجز والعالم بالنسبة له رهيب لا حقيقة له ولا حرية فيه ولا أمان سوى امتداد الآفاق التي لا يمكنه الانتماء إليها. وقد وظف المخيال الأوروبي هذه السفينة فنياً في شكل قصائد أسطورية وألحان موسيقية ولوحات فنية ذات حمولات دلالية متعددة، ففي آداب ما قبل الميلاد كان الجنون فتنة وسخرية وتجربة تراجيدية كوميدية وصورة عجائبية، وجدت مكانها في ضياع أدويسيوس وأوهام باخوس وآلام أوديب. أما في آداب العصر الكلاسيكي فإنها عرفت أشكالا من الجنون منها، العته والهوس والاكتئاب والهستريا والسوداوية، كما احتلت السفينة موقعا مهما في أعمال شكسبير.
من مبررات عدم تحبيذ البحث في ثيمات الجنون المهملة، هو عدم صلابة بنيتها وتشكيك في قابليتها على التدشين الإبداعي، وتردد في إثبات البراعة في التعبير عنها، وأن لا محذور في طرقها لشمولها الخصوص والعموم، فضلا عما فيها من عقبات ومصدات على الكاتب أن يتحمل أعباءها كي يتجاوزها مادا جسورا جديدة تساعده في اقتناص ما فيها من غنى فكري.
وللجنون قرائن كرنولوجية تشكل بمجموعها وحدة الشر في ذاته، فالقرائن الموروثة مرضية ولا إرادية، بسبب خلل عقلي كانفصام الشخصية، والقرائن المصطنعة تتمثل في الجنون الأخلاقي المفتعل. وللوعي بالجنون صور أربع هي:
1 ـ وعي نقدي للجنون: ويتحقق حين يكون الإنسان متيقنا انه ليس مجنونا لكنه ارتمى داخله دون حساب، ولا مفاهيم، وتغدو الزحزحة بين الجنون واللاجنون هي جنون الحكمة، التي فيها يتم نقد جذري للذات مع المجازفة بالارتماء داخل معركة مشكوك فيها.
2 ـ وعي عملي للجنون: وفيه يكون الجنون واقعا ملموسا ودراميا.
3 ـ وعي تلفظي بالجنون: ويكون على مستوى الكينونة كأن نقول (هذا مجنون).
4 ـ وعي تحليلي للجنون: وعي مفصول عن أشكال الجنون وظواهره من المعنى واللامعنى والحقيقة والخطأ والحكمة والنشوى ونور النهار والحلم.
وفي الأدب العربي الحديث وظف الجنون كثيمة مثلها مثل غيرها من الثيمات التي هي مقتضى من مقتضيات الكتابة الإبداعية. والوعي بها يستلزم أن تكون لها ثيمة تتمحور حولها جميع العناصر والعلاقات وتوظف لها التقانات وترصد لها التكنيكات. وليس في طرق ثيمة الجنون عقبة مثل عقبة الغنى الفكري، الذي يهدي الكاتب إلى أشكال مبتكرة وأصيلة، ثم عقبة الشكل الذي به يستطيع الكاتب التعبير بحرية وامتلاء مستثمرا طاقته وشاحذا مخيلته، باتجاه يجعل الجنون قابلا لأن يصب فيه الكاتب كل ما يفصِّل مقاساته ليكون له شكل غني يوصل فحوى غاياته إلى المتلقين بقوة ونضج. وفي سردنا العربي افتتان وتجريب واضحان يدللان على سعي حثيث إلى البحث عن ثيمات جنونية تمد القاص بمساحات تعبيرية غنية، وأبعاد كثيرة تتجاذب في تشييد بناء أدبي يتمتع بالاتساعية في استثمار أبعاد الجنون التعبيرية والبنائية، وبسلطة رمزية فيها الكاتب متحرر وإن كان متموضعاً في دائرتها بتضادية الاعتياد/ الغرابة مستوعبا جميع معطياتها ولا ملما بكل مؤدياتها. وعلى الرغم من ذلك، فلا عجب أن تكون للجنون ثيمات فرعية ما زالت بعيدة عن التناول القصصي، غيبتها ثيمات مركزية، أو همشتها في خانة الثيمات المحظورة، التي لا تبارك المنظومة الثقافية الرسمية توظيفها في الأدب، لما فيها من دلالات تخشى من إشاعتها ودوال ينبغي الحذر من طرقها لأسباب أخلاقية أو اجتماعية أو فكرية أو سياسية أو جمالية. وعادة ما تكون الثيمات المستبعدة محملة بصيغ لم يعهدها القارئ العربي، وهو ما يتطلب جرأة في طرحها مع مغالبة المنظومة التي ترى فيها تعارضا مع توجهاتها، أو أنها لا تخدم أغراضها لتفاهتها وسلبيتها وعدم فائدتها.
والسؤال هنا من الذي يقرر ملاءمة المنتخب من ثيمة الجنون؟ وأين ثقة الأديب بما يرغب فعله؟ وما مدى جسارته في كسر المألوف وخرق المعتاد؟ وهل يصح القول إن الأمر في الملاءمة الثيماتية مرهون بالأديب نفسه وجرأته في الخرق والاشتطاط؟ وما الضمانات التي بها يستطيع الأديب درء ما قد يلاقيه من جراء الخرق والاشتطاط؟ وهل دوما يكون نشدان السلامة مضمونا مع الثيمات المركزية نفسها، أو أن داعي الابتكار والتجديد يقتضي خوض مغامرة البحث في الثيمات المهملة، وتحمّل تبعات نفض الغبار عن مكنوناتها وفرك الصدأ عن أبعادها وزواياها؟
إن من مبررات عدم تحبيذ البحث في ثيمات الجنون المهملة، هو عدم صلابة بنيتها وتشكيك في قابليتها على التدشين الإبداعي، وتردد في إثبات البراعة في التعبير عنها، وأن لا محذور في طرقها لشمولها الخصوص والعموم، فضلا عما فيها من عقبات ومصدات على الكاتب أن يتحمل أعباءها كي يتجاوزها مادا جسورا جديدة تساعده في اقتناص ما فيها من غنى فكري. ولعل وعي الأديب بمحتمات الأصالة وطاقاتها الثرية في التعبير والترميز، هو الذي يجعله يتجاوز كل المحذورات ويتفانى في أن يسجل لنفسه خطوة واثقة وهو يغامر في الكتابة في الجنون، وبما يجعل موهبته ظاهرة بشكل رحب وجديد.
كاتبة عراقية
“القدس العربي”