من الآراء التي كان يقول بها أستاذي المحامي الأمريكي الراحل دايل سبنسر أن في الحقيقة شفاء. كان يقول بما يسمّيه «القوة الشفائيّة للمعلومة الصحيحة». ومؤدى المقولة أن الجسم الاجتماعي يظل مريضا طالما ظل الإعلام، الذي يغذيه يوميا بتصوراته عن الواقع، إعلاما كاذبا عن قصد سياسي أو تجاري أو إعلاما رديئا عن كسل وتقصير أو ضعف معرفي. ذلك أن المجتمع قلّما يدرك الوقائع والظواهر إدراكا مباشرا وقلّما يعرف المعلومات والإحصائيات معرفة أصليّة، وإنما يحصل له معظم الإدراك والمعرفة بتوسّط الإعلام (الذي يندرج في إطاره، حسب أوسع التعريفات، الكتاب المطبوع والإلكتروني وحتى العلامات والعناوين التي تعلو واجهات المحال التجارية والمؤسسات العمومية).
وفي الواقع العيني شواهد: إذ إن من أبرز الفوارق بين بلدان الديمقراطية الليبرالية (التي ينبغي تمييزها عن الديمقراطيات الشعبوية في بولندا والمجر مثلا، أو في فرنسا الوهمية التي يحلم بها المرشح الرئاسي العنصري أريك زمّور) وبلدان الاستبداد، مثل روسيا والصين، أن مجتمعات الديمقراطية الليبرالية تعرف جميع مشكلاتها وأمراضها معرفة تشخيصية دقيقة بفضل توفر المعلومة الصحيحة، أي المحدّثة المجدّدة بانتظام. أما المجتمعات التي ابتليت بحكم الاستبداد، فإنها محرومة حتى من الحق في معرفة أمراضها ودرجة الإصابة بها، ناهيك عن طلب علاجها. وقد تجلى هذا بوضوح عند انفجار الثورات الشعبية العربية، حيث تبين بعد 2011 أن معظم ما كان يقوله إعلام الاستبداد غير صحيح وأن أرقام الأداء الاقتصادي وتوزيع الثروة الوطنية كانت أرقاما مجمّلة للاستهلاك الخارجي (مثل خرافة «المعجزة الاقتصادية» التي روجها النظام النوفمبري في تونس طيلة ربع قرن). كما كانت المشكلات الاجتماعية، من بطالة وإجرام وانقطاع عن الدراسة وانتشار للفقر الخ، تهوّن وأرقامها تخفف. إذ لم يكن القوم متخصصين إلا في السارّ من الأخبار!
الجسم الاجتماعي يظل مريضا طالما ظل الإعلام، الذي يغذيه يوميا بتصوراته عن الواقع، إعلاما كاذبا عن قصد سياسي أو تجاري أو إعلاما رديئا عن كسل وتقصير أو ضعف معرفي
أما المجتمع العالمي فإن التعددية التي تسمه هي التي تيسّر توفر المعلومات الدقيقة عن أوضاعه وأمراضه. إذ ليس في وسع أي نظام استبدادي، مهما كانت عظمته (والصين المعاصرة هي أعظم أنظمة الاستبداد في التاريخ كله بما حققته من إحكام السيطرة الأمنية-التكنولوجية وسد منافذ الحرية على جميع مسامّ الجسم الاجتماعي) أن يمنع العالم من معرفة حقائقه الداخلية ولو بعد حين (كما حصل للحقيقة التي تكتّم عليها النظام الصيني طويلا: أنه يضطهد المسلمين ويحتجز حوالي مليون منهم سجناء في المعسكرات). وقد كانت أكثر المعلومات في المجال الاقتصادي والاجتماعي تأتي من المؤسسات الدولية الرسمية (البنك العالمي، صندوق النقد، الأمم المتحدة الخ) إلا أن تكاثر المنظمات ومؤسسات الأبحاث العالمية غير الحكومية قد فجّر ينابيع أخرى من المعلومات التي تكمل المعلومات الرسمية أو تعدّلها، بل وتصححها.
ولعل هذه الميزة تبرز بأجلى ما يكون في رصد التفاوت الاقتصادي واتساع الهوة بين أغنياء العالم وفقرائه، حيث أن المنظمة الخيرية أوكسفام هي التي دأبت على توعية الرأي العام العالمي بهذه القضية الخطيرة. على أن الجديد هو أن الباحث الاقتصادي توما بيكتي (الذي نال شهرة عالمية بفضل كتابه «رأس المال في القرن الحادي والعشرين» الذي بيعت منه، منذ صدوره عام 2013، مئات آلاف النسخ وشاع القول بأن أهميته تضارع أهمية كتاب رأس المال لماركس) يرى وجوب تدقيق المعارف في هذا الشأن وتحديثها بانتظام. لهذا أنشأ مع ثلاثة من زملائه «مختبر اللا-مساواة العالمية» الذي تتضافر فيه أعمال أكثر من مائة باحث من كل القارات. وقد نشر المختبر تقريره الأول عام 2017. أما التقرير الجديد الذي صدر هذا الأسبوع، واستغرق البحث فيه أربعة أعوام، فإنه يقدم أحدث إضاءة على الأوضاع المعيشيّة العالمية في إطار أشمل دراسة تاريخية مقارنة لتوزيع الدخل والثروات منذ عام 1820 إلى اليوم!
ويبين التقرير أن اللا-مساواة ما انفكت تتفاقم لتبلغ هذا العام أقصى درجاتها: حيث أن 10 بالمائة من أثرى أثرياء العالم يحصلون على 52 بالمائة من الدخل العالمي ويمتلكون 76 بالمائة من الثروات، بينما لا يتقاسم 50 بالمائة من أفقر الفقراء إلا 8،5 بالمائة من الدخل و2 بالمائة من الثروات. وفيما يحدث أثرى الأثرياء هؤلاء 48 بالمائة من منفوثات ثاني أوكسيد الكربون المسببة للاحتباس الحراري، فإن أفقر الفقراء ليسوا مسؤولين عن إحداث سوى 12 بالمائة من هذه الغازات. أما النساء فلا يحصلن إلا على 35 بالمائة من مجموع الدخل الناجم عن الجهد والعمل.
الحقيقة المريرة هي أن النسبة الهزيلة من الدخل العالمي، أي الـ8،5 بالمائة، التي يحصل عليها الفقراء اليوم إنما تمثل تقدما معتبرا (!) لأن نصيبهم قبل أربعين سنة لم يكن يتجاوز 5 بالمائة.
كاتب تونسي
“القدس العربي”