تمحور جزء أساسي من الرؤى والأفكار السوفياتية حول «المسألة الألمانية» إبان الحرب الباردة حول فكرة تحييد ألمانيا في مقابل إعادة توحيدها.
ذلك أنّ السوفيات أدركوا باكراً أنّ إمساكهم بألمانيا شرقية هزيلة هو وطأة عليهم. هذا في مقابل ألمانيا غربية أكثر عدداً ومتفوقة صناعياً، وعائدة بسرعة إلى مركز الصدارة الاقتصادي على الصعيد الأوروبي، بعد سنوات من الهزيمة الكاملة للرايخ الثالث، ومنخرطة تماماً في «حلف شمالي الأطلسي» الذي أباح إعادة تسليحها وانشاء جيشها الجديد البوندسفير عام 1955، بمعية ضباط الجيش القديم «الفهرماخت» الذي خاض الحرب العالمية الثانية (هذا بخلاف اليابان التي حُرِمَت بعد الحرب ولا تزال من أن يكون لها جيش). َوإذا كانت مجاهرة لافرنتي بيريا، الرجل الأقوى لحظة وفاة جوزيف ستالين، بعدم الاقتناع بالحفاظ على ألمانيا الشرقية وإدراكه بأنّ النزيف السكاني الحاصل فيها بإتجاه الشطر الغربي من برلين يؤسس لنزيف القوة السوفياتية في أوروبا بشكل عام، هي مجاهرة من النوع الذي عجّل بتأليب باقي أفراد القيادة عليه وإزاحته بسرعة وإعدامه بدعوى أنّه عميل للمخابرات البريطانية، إلا أنّ الإتحاد السوفياتي لم يستطع من بعده أن يتجاهل أن تقسيم ألمانيا بهذا الشكل هو لمصلحة المعسكر الغربي المواجه.
وهذا ما يشدّد الفرنسي جورج هنري سوتو في كتابه الشامل حول «الحرب الباردة» على التقاطه إبان أزمة برلين 1958 – 1961 المنتهية بإقامة جدار برلين. فبخلاف النظرة السائدة سابقاً، والتي كانت تعيد التوتير الحاصل آنذاك إلى تطابق في وجهة النظر والمقصد بين موسكو وبرلين الشرقية، يعزّز سوتو من سردية أخرى تسندها الأرشيفات المفتوحة بعد نهاية الحرب الباردة بشكل أقوى، وهي أنه، لئن كان التوتير مع الغرب حول مسألة برلين ارتبط بمحاولة وضع اليد على الشطر الغربي للمدينة من قبل النظام الحاكم في ألمانيا الشرقية، فإن الموقف الفعلي للقيادة السوفياتية كان أكثر التباساً وازدواجياً. كان يتوخى من هذه الأزمة أن تدفع ألمانيا الغربية باتجاه تمييز سياساتها عن الولايات المتحدة أكثر، وبشكل يؤسس لخط تواصلي مستقل بذاته بينها وبين موسكو، يكون أفقه التفكير بمخطط لإعادة توحيد ألمانيا في مقابل تحييدها عن حلف شمالي الأطلسي. هذا مع أن سوتو يلفت في الوقت نفسه الى أن السوفيات كانوا يريدون الشيء ونقيضه. من جهة، يبتغون إبعاد ألمانيا عن الولايات المتحدة قدر المستطاع، ومن جهة مقابلة، يتخوّفون اذا ما استقلت ألمانيا الغربية بقرارها أن تخرج عن السيطرة، ولم يكن قد مضى الكثير على ويلات الحرب العالمية الثانية.
انتقل الإتحاد السوفياتي في آخر الأمر، في السنوات السابقة على تحلّله، من التداول في أمر إعادة توحيد ألمانيا في مقابل تحييدها وما هي شروط وضمانات المضي في هذا الإتجاه، إلى التسليم بالمسار المفضي إلى الوحدة الألمانية، وعلى أمل التحييد، لتكون النتيجة، مع انهيار الأنظمة التابعة له في أوروبا الشرقية والوسطى، ثم تفككه السريع هو، أنه ليس فقط ألمانيا الموحدة لم تكن في وارد الإنسحاب من أطلسيتها قيد أنملة، بل أن سائر بلدان حلف وارسو المنهار تسابقت على الإنضمام للحلف الأطلسي، وسريعاً ما طرحت مسألة انضمام جمهوريات سوفياتية سابقة إليه، بدءاً من جمهوريات البلطيق الثلاث التي دخلته عام 2004، وكان هذا مفصلا أساسيّا اتخذت من بعده موسكو قراراً بالتصميم على أن تدخل في هذا الحلف وأن لا ترتبط به بشكل استراتيجي أي جمهورية سوفياتية رابعة، وهذا ما شكّل الخلفية التي على أساسها خيضت الحرب مع جيورجيا عام 2008، وتخاض الحرب في حوض الدونباس، في الشرق الأوكراني منذ 2014، التي أوقعت حتى الآن 13500 قتيل، هذا علاوة على انسلاخ شبه جزيرة القرم عن أوكرانيا وضمّها الى روسيا الإتحادية.
انتقل مركز المواجهة بين الغرب الأطلسي مع موسكو من الصراع على ألمانيا خلال الحرب الباردة، إلى الصراع على أوكرانيا في الحرب الباردة الجديدة
واليوم جزء أساسي من النقاش حول أوكرانيا يتعلّق بإمكانية تحييدها، إنما مع التباس تحديد وجهة هذا التحييد. فحلف وارسو لم يعد موجوداً، ولا الاتحاد السوفياتي، ومع ذلك حلف شمالي الأطلسي يتمدّد، والقوميّون الأوكران أطلسيّو الهوى بامتياز، في مقابل نسبة واسعة من الأوكران الروس والمروسنين تنقسم بين الانحياز من موسكو وبين عدم الإعجاب بنظام فلاديمير بوتين، إنما النفور من شوفينية القوميين الأوكران التمييزيين بازائهم بعد أكثر، وهو ما رفعه فلاديمير بوتين في كلام له أخير الى مرتبة عملية إبادة يقوم بها القوميّون الأوكران للأوكران الروس في حوض الدونباس، ما فُهَمَ عبر العالم على أنه تهديد بتدخل روسي واسع النطاق ضد أوكرانيا، مرفق بتحشيد نوعي على الحدود معها، وتضاف تداعيات أزمة الحدود في بيلاروسيا، الموالية لموسكو، والتي استدعت من بولونيا ودول البلطيق الثلاثة المطالبة بتحريك المادة الرابعة من ميثاق الحلف، ما دامت تعتبر أن سلامة أراضيها في خطر.
لقد انتقل مركز المواجهة بين الغرب الأطلسي مع موسكو من الصراع على المانيا خلال الحرب الباردة، الى الصراع على أوكرانيا في الحرب الباردة الجديدة. بالنسبة إلى موسكو، انزياح نقطة التوتر شرقاً بهذا الشكل فيه إحياء لذاكرة الحرب العالمية الثانية، يوم كان اجتياح أوكرانيا واستعمارها، مع الاستفادة من النزعات المناوئة لموسكو فيها، هو محور التصور النازي شرقاً، وارتبط ذلك من الناحية الألمانية مع تصور يقول بأن سلب أوكرانيا من روسيا يؤسس لزوال روسيا نفسها، وانقسامها لعشرات من الدول، ورجعة موسكو لتكون عاصمة دولة الموسكوب كما كانت هي الحال حتى أواخر القرن الخامس عشر، أي قبل العام 1470 الذي أعلن فيه دوق الموسكوب ايفان الثالث نفسه قيصراً على عموم البلاد الروسية لأول مرة.
المفارقة التي تلتقطها ماري أليز ساروت، مؤرخة ما بعد الحرب الباردة، في كتاب صادر لها حديثاً، ويتناول مآزق عالم ما بعد الحرب الباردة، ان أمريكا نفسها كانت الأكثر قلقاً في الشهور الأخيرة للاتحاد السوفياتية على أن لا تنقسم القوة النووية السوفياتية بين الجمهوريات المستقلة، وان تؤول كل هذه القوة النووية للسيادة الروسية حصراً.
وساروت تبني على ذلك لتقول إن الغرب أضاع لاحقاً فرصاً تأمنت له في التسعينيات كي لا تؤدي عملية توسيع الحلف الأطلسي شرقاً الى احتقان متصاعد في روسيا، من نوع الاحتقان الذي ظفر بالسلطة فيها مع خلافة فلاديمير بوتين لبوريس يلتسن.
بوتين الذي حرص، في اثر اندلاع الأزمة الكبرى عام 2014 مع أوكرانيا والغرب على اقامة تمثال ضخم لفلاديمير الكبير، أمير كييف، والذي بتنصره عشية الألف الأول للميلاد، صنع الرابطة بين الروس والبيزنطيين، ولأجل ذلك، الفكرة القومية الروسية ترى أن روسيا نفسها هي التي تأسست في كييف مع فلاديمير، وان تركة مملكة كييف هذه، والتركة البيزنطية بالتداخل معها، هي في أساس تكون روسيا.
وثمة من يضيف بأن بوتين نفسه يعطي قيمة رمزية مسرفة لتطابق اسمه الأول.. مع فلاديمير الأول، هذا الذي يحرص الأوكران في المقابل على مناداته فولوديمير، درءا له عن الروسنة.
“القدس العربي”