سايكس بيكو معاهدة سرية مشؤومة فضحها ثوار روسيا عام 1917
بعد أن استعرض المؤلفان أصل مصطلح الشرق الأوسط وتطوره ينتقلان بعد ذلك الى تفاصيل أخرى تتعلق بسرد تفاصيل وخبايا المؤامرة المشهورة على العرب والخاصة باتفاق سايكس بيكو، حيث يعرضان لحياة مارك سايكس الذي اشتهرت الاتفاقية باسمه مع نظيره بيكو على نحو مثل ما يمكن اعتباره حلا وسطا بين الأطماع البريطانية والفرنسية، ومن بين ما يتناوله المؤلفان الجوانب المتعلقة باقتسام الشرق الأوسط، وكيف جرى خداع العرب من خلال وعود كاذبة في الوقت ذاته الذي تمت كل المؤامرات المتعلقة بالنيل من حقوقهم من وراء ظهورهم.
ويدعونا مؤلفا الكتاب إلى قراءة، على البارد كما يقولان، لاتفاقية سايكس بيكو ويلفتان الاهتمام إلى أنها حملت وعودا بدولة عربية مستقلة لكنهما لا يملكان سوى الاعتراف (ص 108) بأن الاتفاقية بكل نصوصها ووعودها تمت من وراء ظهر العرب ودون أي مشاورة مع أي طرف من الأطراف المعنية مباشرة من أهل منطقة الشرق الأوسط. أكثر من هذا.. كان سايكس ينتمي إلى تلك الطغمة من عتاة الاستعماريين المتعصبين عرقيا ودينيا أيضا.
لمنجلية اختراع الشرق الأوسط (2)
في تصورنا أن الفصل الثالث هو أخطر فصول الكتاب. إنه الفصل الذي يروي سيرة حياة سير مارك سايكس (1879-1919) الذي لا يرتبط اسمه فحسب باتفاقية سايكس ? بيكو الشهيرة التي قرر فيها الغرب بعد الحرب العالمية الأولى تقسيم منطقة الشرق الأوسط (المشرق العربي بالذات).. في معاهدة سرية تمت من وراء ظهر الأطراف العربية صاحبة المصلحة، ولكن لأن سايكس يرتبط أيضا بأخبث مشروع استيطاني زرعه الاستعمار الغربي? البريطاني تحديدا في قلب الوطن العربي متمثلا في الكيان الصهيوني الإسرائيلي.
نشأ مارك سايكس في أسرة تنتمي إلى الارستقراطية القديمة وتوجه إلى القاهرة عام ,1916. ورأى في العاصمة المصرية مركزاً يصلح لإدارة شؤون المشرق العربي ورسْم حدوده المستجدة بعد الحرب العالمية الأولى، وطبعا على أنقاض خلافة بني عثمان التركية التي تحولت إلى وضع «رجل أوروبا المريض» منذ القرن التاسع عشر.
مكتب الاستخبارات في القاهرة
هنالك اقترح سايكس إنشاء مركز الاستخبارات البريطاني المعني بشؤون المشرق وشبه الجزيرة تحت اسمه الذي أصبح معروفا في تاريخنا الحديث: المكتب العربي.
وفي إطار هذا المكتب، الاستخباراتي في الأساس، لمعت أسماء رجال من قبيل هوجارث عالم الحفريات والكولونيل كلايتون مدير المخابرات العسكرية البريطانية أما نجمه فكان اسمه ت إ. لورنس الذي اشتهر باسم لورانس أوف أرابيا أو لورنس العرب.
كان سايكس وليس غيره هو مصمم الراية التي حملها منفذو ما أصبح يعرف في تاريخ المنطقة باسم الثورة العربية الكبرى (تعرف في حوليات التاريخ البريطاني باسم «التمرد العربي») وكان هذا العلم المرفرف كما رسمه مارك سايكس يتألف من الآتي كما يوضح مؤلفانا (ص 106): السواد شعار العباسيين في بغداد – الأبيض شعار الأمويين في دمشق – الأخضر شعار العلويين في كربلاء – الأحمر شعار العرب المعاصرين.
بيد أن المحور الأهم في سيرة وأعمال رجل الاستعمار البريطاني مايك سايكس هو ذلك اللقاء الذي جمع بينه وبين نظيره الفرنسي فرانسوا جورج بيكو في مقر الخارجية الفرنسية، كان بيكو (1870-1951) قد عاد من منصبه المشرقي حيث عمل قنصلا عاما لفرنسا في بيروت.. وكان ينحدر من أسرة مؤصلة في سلك الاستعمار كما يقول كتابنا.. ومن هنا جاءت قناعته بأن فرنسا تتحمل رسالة تاريخية في منطقة الشام على وجه الخصوص وهو ما دفعه إلى تصور كيان خلع عليه بيكو اسم سوريا المتكاملة المتدامجة أو الموحدة ويضم كلا من دمشق وحلب وبيروت إلى جانب الأماكن المقدسة في فلسطين ومعها حيفا على البحر المتوسط ثم إقليم الموصل العثماني (شمالي بلاد الرافدين) بحيث يكون الامتداد من جبال طوروس في الشمال إلى حدود مصر في الجنوب.
هذه المعاهدة المشؤومة
هذا المشروع الفرنساوي كان يشكل رعبا كما يؤكد المؤلفان لجماعة الإنجليز العاملين في «المكتب العربي الاستخباراتي» في القاهرة.. ولذلك كان المطلوب التماس حل وسط يجمع بين الأطماع البريطانية والطموحات الفرنسية..
ولهذا وقع الاختيار على مارك سايكس من أجل التوصل إلى اتفاق يرضى الطرفين في كل من لندن وباريس أو بالأدق يرضى كل منهما باقتطاع أجزاء يلتهمها من جسم الشرق الأوسط وموارده وشعوبه ذات الأغلبية الإسلامية الكاسحة.. ومعها أيضا أقليات من المسحيين وأبناء عقائد أخرى.
كيف اقتسموا الشرق الأوسط
أسفرت جهود سايكس عن هذا الاتفاق بالتراضي وبموجبه منحوا فرنسا حق السيطرة الإدارية المطلقة على لبنان الكبير وعلى طول سواحل سوريا وخلعوا عليها اسم «المنطقة الزرقاء»، فيما تنال بريطانيا حقوقا موازية كما يصفها كتابنا داخل منطقة «حمراء» تقع في جنوبي بلاد ما بين النهرين (العراق الحديث) وتمتد من بغداد إلى جيب ساحلي يضم كلا من حيفا وعكا.
أما فلسطين والأراضي المقدسة فيقضي اتفاق سايكس بيكو بإدارتها دولياً ضمن منطقة أصغر تحمل اسم المنطقة البنّية أو «السمراء» على أن تدرس تفاصيلها بعد انتهاء الحرب العالمية (كان ثمة تربص خاص بالنسبة لفلسطين) ومن عجب أن الاتفاق الاستعماري الأنجلو فرنسي شمل اتفاقا بأن يعترف طرفاه بقيام دولة عربية مستقلة أو اتحاد كونفدرالي لدول عربية تحت ولاية زعيم عربي، على أن يخضع هذا الكيان المفترض لعملية تقسيم (تأمل!) إلى نطاقات أصغر تتمتع فيها كل من بريطانيا وفرنسا بحقوق خالصة لها وتخوّلها تقديم المستشارين والموظفين الأجانب بناء على طلب الأطراف العربية (تأمل أيضا لغة النفاق الدبلوماسي!).
كان هذا هو جوهر الاتفاق «المشؤوم» كما يصفه المؤلفان (ص 107) وبعد أن تفاوض عليه الجانبان سايكس الإنجليزي وبيكو الفرنسي سافرا إلى بتروجراد الروسية في أبريل 1916 حيث نزل سايكس في فندق استوريا واجتمع إلى سفير صاحب الجلالة (البريطاني) وظلت تراوده مخاوف من صعوبة عرض المعاهدة على وزير خارجية روسيا (القيصرية) سيرجي سازانوف. لكن سرعان ما تبددت مخاوفه بعد استعادة روسيا لوعد سابق بالسيطرة على مضايق البوسفور (التركية الأصل). فضلا عن مساحات أوسع للسيطرة البرية مقدارها 60 ألف ميل مربع من أراضي الإمبراطورية العثمانية في آسيا الصغرى وسواحل البحر الأسود حتى أجزاء من كردستان.
والأعجب أن المعاهدة التي نصت على كل هذه الاتفاقات والتقسيمات والوعود وتقطيع أوصال المشرق العربي ظلت سرية بين أطرافها الإنجليزي والفرنسي والروسي إلى أن اندلعت ثورة أكتوبر البلشفية وأطاحت بالنظام القيصري في عام ,1917. يومها زحف الثوار إلى السراي.. فتحوا الأرشيف القيصري وعثروا على معاهدة سايكس بيكو وسارعوا إلى إعلانها على الملأ العالمي آية على التواطؤ الاستعماري بين الإمبراطوريات الكبرى في عالم بدايات القرن العشرين.
خدمة الصهيونية
لكن الأفدح في سيرة مايك سايكس هو اعتناقه ل«الحق.. الصهيوني».. كان قد قرأ كتاب هرتزل الصادر عن «الدولة اليهودية» عام ,1896. وكان الإنجليز قد عينوا سير هربرت صمويل أول وزير داخلية يهودي في حكومة الملك عام 1916. ويوضح كتابنا (ص 113) أنه لم يضيع الوزير اليهودي وقتا بل دعا إلى وطن قومي لليهود في فلسطين ما بعد الحرب تتحول من ثم إلى دولة يهودية مكتملة.. وكانت السنوات الأولى من القرن العشرين قد شهدت حركة متحمسة بين النخبة البريطانية لإقامة مشروع صهيوني لصالح اليهود.. وفي هذا الإطار ارتفعت دعوات لإنشاء مستوطنات لليهود في سيناء المصرية أو في جزيرة قبرص.. بل في أوغندا بوسط أفريقيا.
لكن الأنظار تحولت إلى فلسطين بعد جهود حثيثة بذلها يهودي شاب وقتئذ اسمه حاييم وايزمان.. كان وايزمان في الثانية والأربعين حين التقى مع سايكس وتم اللقاء في يناير عام 1916 واستطاع وايزمان إقناعه بالمشروع الصهيوني الذي صورته أفكار بالأدق أوهام سايكس على أنه تحقيق لمطامح قومية يشترك فيها أقوام شتى من اليهود.. والأرمن.. والعرب أيضا (!)
ورغم ارتفاع أصوات داخل الوزارة البريطانية على مدار عام 1917 تعارض صدور إعلان عن وطن قومي لليهود في فلسطين، فقد ظلت جهود سايكس متواصلة تدفع الخطى لصدور إعلان تصريح بلفور.
يقول مؤلفا الكتاب في هذا الخصوص: في 31 أكتوبر من عام ,1917. وكانت (الحرب العالمية لا تزال مشتعلة الأوار).. عقدت وزارة الحرب اجتماعها في لندن..
واستعرض الوزراء تحفظات وتحذيرات اللورد كيرزون. وعمد وزير الخارجية اللورد آرثر بلفور إلى تلخيص إيجابيات ومحاذير الإعلان المتعلق بالآمال والطموحات الصهيونية في فلسطين وخاصة اعتراضات الوزير كيرزون على اللغة الغامضة والصياغة الملتبسة لعبارة «وطن قومي لليهود» وقإل بلفور أن هذه العبارة لا تعني إنشاء دولة يهودية مستقلة (تأمل !) بل تقصد كما أضاف بلفور في نفس الاجتماع أن على اليهود أن يعملوا جاهدين من أجل خلاصهم وانعتاقهم كي يخلقوا «مركز حقيقيا للثقافة القومية ومحورا للحياة الوطنية» في فلسطين.
هنا أيضا ينبه المؤلفان إلى أن لورد بلفور كان يصرح في مناسبات أخرى بأن المقصود هو إنشاء دولة يهودية.. (والنفاق الإنجليزي سلوك معروف) والحاصل طبعا أن توصلت حكومة الملك البريطانية إلى قرار إصدار تصريح بلفور. وكان التصريح عبارة عن خطاب موجه من وزير الخارجية البريطاني إلى «عزيزي اللورد روتشيلد» رئيس الجالية اليهودية في بريطانيا.
يعلق المؤلفان أيضا في عبارات تقول: في صيغته النهائية لخص الإعلان ألفي سنة من الدماء والدموع في رسالة مؤلفة من 75 كلمة ليس إلا. يومها.. يضيف كتابنا (ص 121).. غادر السير مارك سايكس قاعة مجلس وزراء الحرب في 10 داوننغ ستريت في لندن.. دلف إلى زاوية من أرجاء المكان.. التقط قطعة ورق صغيرة.. وانحنى يكتب كلمات كفيلة بأن تستثير الاهتمام عبر الأجيال والعصور.. بعد أن فرغ من الكتابة سلم الورقة الصغيرة إلى زائر كان ينتظر وقد استبد به طائف القلق من كل جانب.. كان الزائر مدرسا في جامعة مانشستر لعلوم الكيمياء.. اسمه حاييم وايزمان.. أما الورقة الصغيرة فكانت تحمل بخط السير مايك سايكس كلمات تقول: دكتور وايزمان.. مبروك.. المولود غلام.
وجاءت الأنفلونزا الأسبانية
ومن تصاريف القدر أن باعدت الظروف بين الرجلين.. وايزمان تولى منصب رئيس الكيان الصهيوني بعد عام ,1948. إلى أن توفى عام 1952. أما اللورد سايكس فلم يقيض له أن يعيش سوى 15 شهرا.. وفي 10 فبراير ,1919. أصابته حمى الأنفلونزا الأسبانية وكانت من أفدح أدواء تلك الحقبة من القرن العشرين.. ولم يمهله المرض سوى أيام توفى بعدها ولما يبلغ عامه الأربعين. وبعد 89 عاما من وفاته.. عادوا مع أواخر سبتمبر 2008 إلى نبش قبره لعل رفاته تفيد العلماء في دراسة هذه الحمى الأسبانية التي أودت بحياة الملايين.
الصفحات: 507
الكتاب: عملية اختراع الشرق الاوسط
تأليف: كارلماير وشارين بريساك
عرض ومناقشة : محمد الخولي
الناشر: نورتون وشركاه، نيويورك، لندن